في الوقت الذي تعلن فيه الحكومة الفلسطينية الانفكاك الاقتصادي عن الاحتلال الإسرائيلي، وتبدأ بأولى خطواتها بمنع استيراد العجول، وإيقاف التحويلات الطبية من السلطة إلى المستشفيات الإسرائيلية خرجت وزارة الزراعة الفلسطينية بقرار آخر أثار غضب الشارع الفلسطيني، يقضي بالسماح باستيراد ثمار زيتون من نوع خاص للتخليل من الاحتلال والخارج.
ويُظهر هذا القرار الذي وصفه نشطاء فلسطينيون بـ"الكارثي" تناقضاً بين رغبة الحكومة في الاستقلال الاقتصادي وارتباطها سياسياً واقتصادياً بالاحتلال.
الوزارة بررت الأمر بأن استيراد ثمار الزيتون من الاحتلال الإسرائيلي جاء بسبب حاجة المصانع الفلسطينية لبعض أصناف الزيتون غير المتوفرة في السوق الفلسطيني، وهي ليست بديلة عن الزيتون الذي يزرعه الفلسطيني ولن تؤثر على الإنتاج السنوي".
تحديات الانفكاك الاقتصادي
رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتیه قال الجمعة الماضية "إننا ماضون في الانفكاك التدریجي من العلاقة الكولونیالیة (الاستعماریة) التي فرضھا الاحتلال الإسرائیلي". وأشار الى أنه "في ظل انسداد الأفق السیاسي في الوقت الراھن فإنه لا یمكن الاستسلام للأمر الواقع الذي فرضه الاحتلال، ویجب كسر ھذا الأمر الواقع من خلال الانفكاك من الاحتلال".
إصرار رئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتيه على مقاطعة العجول الإسرائيلية، واجهته إسرائيل بعقوبات تمثلت بمنع السلطة من تصدير الزيت والزيتون والتمور إلى الدول العربية والأوروبية، في مسعى منها لإجبار الفلسطينيين على التراجع عن خطة الانفكاك الاقتصادي والتجاري عن إسرائيل.
ويبلغ متوسط الاستهلاك السنوي من لحم العجول في السوق الفلسطينية، قرابة 120 ألف عجل، معظمها تُستورد عبر تجار إسرائيليين و10% منها من مزارع إسرائيلية، فيما يُقدر معدل إنتاج فلسطين السنوي قرابة 20 ألف طن من الزيت و12 ألف طن من الزيتون المُعد للتخليل، ويعتبر عماد الاقتصاد الزراعي الفلسطيني؛ إذ تعتمد عليه أكثر من 100 ألف أسرة فلسطينية مصدراً أساسياً للدخل.
"تقدر المساحات المزروعة بالزيتون في فلسطين بمليون دونم، 95% منها في الضفة الغربية"
وقالت وسائل إعلام إسرائيلية، إن إسرائيل تضغط على الجانب الفلسطيني للتراجع عن قرار وقف الاستيراد، لما له من آثار سلبية على تُجّارها، ومن بين الضغوطات حسب قناة مكان الإسرائيلية، خطوة مرتقبة بمنع تصدير زيت الزيتون الفلسطيني إلى الخارج.
الحكومة الفلسطينية أعلنت مواصلتها خطتها بالانفكاك الاقتصادي والتجاري من إسرائيل، وأكد الناطق باسم الحكومة إبراهيم ملحم، أن قرار الحكومة وقف استيراد العجول من إسرائيل ما زال ساري المفعول، نافياً عودة الحكومة الفلسطينية لاستيرادها، حسب وكالة الأنباء الفلسطينية وفا.
وأضاف ملحم "نحن نتواصل ضمن الرؤية الاستراتيجية بالانفكاك التدريجي التي حددها الرئيس محمود عباس للحكومة في كتاب التكليف قبل نحو 200 يوم، حيث إن الحكومة ماضية في تطبيق توجيهاته، وإيجاد بدائل للمنتجات الإسرائيلية لتعزيز المنتج الوطني، فيما تم التوافق مع الأشقاء العرب على إحلال المنتجات العربية مكان المنتجات الإسرائيلية".
لكن يبدو أن خطة الانفكاك الاقتصادي تواجه تحديات كبيرة على الرغم من "تأكيد الحكومة الفلسطينية في أكثر من مناسبة أن القرار تم بعد دراسة موثوقة للسوق والمخزون وتعهد الحكومة بعدم ارتفاع أسعار اللحوم، إلا أننا أصبحنا أمام حقائق معاكسة"، حسب المدير التنفيذي للائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان" مجدي أبو زيد.
وأشار أبو زيد في منشور عبر صفحته على فيسبوك إلى ارتفاع أسعار اللحوم بشكل كبير، بعد قرار الحكومة، ما تسبب في إرهاق كاهل المواطن.
"انفكاك شبه مستحيل"
يقول أستاذ الدراسات العليا في الاقتصاد بالجامعة العربية الأمريكية في رام الله نصر عبد الكريم إن "ما نحن بحاجة إليه اليوم هو تعريف الانفكاك الاقتصادي، وهل هو قائم على إعادة صياغة العلاقة الاقتصادية مع الاحتلال؟".
وأضاف في تصريح لـTRT عربي "كي نحقق الانفكاك الاقتصادي في فلسطين علينا أن نقيم العدالة الاقتصادية، وأن نسعى إلى الابتعاد رويداً رويداً عن التبعية شبه المطلقة لإسرائيل".
وأشار إلى أن ذلك يتحقق من خلال وضع خطة طويلة الأمد قوامها تشجيع المنتج المحلي وتعزيز استهلاكه بالدرجة الأولى.
ويعتقد عبد الكريم أن صيغة الاستقلال الاقتصادي التام عن الاحتلال تبدو شبه مستحيلة في ظل الظروف الراهنة، "لأن العلاقات الاقتصادية تداخلت بشكل كبير، ونعيش اليوم في ذروة التبعية الاقتصادية للاحتلال".
ويقول "على سبيل المثال هناك نحو 200 ألف عامل فلسطيني يعتمدون على سوق العمل الإسرائيلي وهؤلاء يُدِرون نحو مليار شيكل شهرياً في السوق الفلسطيني".
العلاقات الاقتصادية تداخلت بشكل كبير، ونعيش اليوم في ذروة التبعية الاقتصادية للاحتلال
ويضيف أن إيرادات السوق الفلسطينية من إسرائيل حالياً تقدَّر بنحو 70%، بينما يُصدِّر الفلسطينيون 93% من صادراتهم لإسرائيل، وهناك اعتماد كبير على السوق الإسرائيلية، خاصة وأن الاحتلال يسيطر على كافة المعابر الفلسطينية، وبإمكانه وضع عراقيل اقتصادية كثيرة.
وفيما يتعلق بما يعرف بأزمة استيراد العجول، يرى أستاذ الدراسات العليا أن العجول، وإن جرى استيرادها مباشرة من أيّة دولة مجاورة، ستمر عبر المعابر الإسرائيلية وتبقى لدى الاحتلال أوراق كثيرة يمارس من خلالها الضغوطات.
ويتابع "الفلسطينيون بحاجة لموافقة إسرائيل على الاستيراد والتصريحات الحكومية تثبت ذلك، ويمكن للاحتلال وضع عوائق كثيرة والتسبب بأضرار للقطاع الخاص في فلسطين".
ويعتقد نصر عبد الكريم أنه يجب البدء بالحديث عن مسار تدريجي لتعديل العلاقات الاقتصادية مع الاحتلال من أجل تحقيق الانفكاك الاقتصادي، وذلك من خلال تمكين السوق الفلسطيني ودعمه وتحقيق مكاسب كثيرة من خلال سياسات حكومية عادلة ومنحازة للاقتصاد الفلسطيني.
ويقول إن هناك "رؤية" فلسطينية بالوقت الراهن لتحقيق الانفكاك عن الاحتلال، ولكن لا توجد "خطة" لتحقيق هذا الانفكاك، "ونحن بحاجة لخطة محكمة وذات جدول زمني واضح، خطة متوازنة وتدريجية تحقق لنا الاستقلال ولا تثير أزمات كما تثير قضية استيراد العجول التي قد تسبب الضرر لقطاعات وتصب في مصلحة قطاعات أخرى".