أمل رنتيسي -سامي برهوم
بهذه الكلمات تصف الطفلة آمال (14 عاماً) المعاناة النفسية التي تواجهها في غزة، فرغم مرور أكثر من عام على حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، لم تعتد بعد الطفلة على أصوات الغارات الجوية اليومية، ولا أصوات "الزنانات" (طائرات الاستطلاع الإسرائيلية) التي لا تغيب عن سماء غزة، والتي تثير أصواتها الرعب والقلق والخوف.
آمال هي واحدة من أطفال غزة التي تحدثت عن الآثار المترتبة لحالة القلق والخوف التي تعيشها، وتقول لـTRT عربي "الحرب أثرت فينا كثيراً في عدة جوانب، أولاً حطمت طموحاتنا ودمرت نفسيتنا، وغيرت تفكيرنا بالكامل، وصرنا نعيش في حالة من القلق المستمر، وفي معظم الأحيان لا نتمكن من النوم بسبب الخوف".
ففي الوقت الذي يحتفل فيه أطفال العالم بيوم الطفل العالمي الذي يصادف 20 نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام، يعيش أطفال غزة واقعاً قاسياً تمثل في القتل والتجويع والتهجير والقصف وفقدان ذويهم وحقهم في التعليم، ما ترك آثاراً نفسية مدمرة عليهم، قد تسبب في ضياع جيل كامل، وفق تقارير الأمم المتحدة.
واليوم الأربعاء، قال مفوض وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، فيليب لازاريني، إنه بعد 3 عقود من اعتماد اتفاقية لحماية الطفل، تُنتهك اليوم حقوق الأطفال الفلسطينيين، إذ باتت غزة مقبرة لهم، حيث ترتكب إسرائيل إبادة جماعية.
على حين قال متحدث باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، جيمس إلدر، إنه "يجب أن يكون يوم الطفل العالمي يوماً للاحتفال، ولهؤلاء الأطفال في غزة ولبنان، فإن يومهم يدور حول البقاء على قيد الحياة وليس الاحتفال".
"الكوابيس تطاردنا"
تعيش الطفلة آمال الآن في مدينة خان يونس جنوبي القطاع، وتصف معاناتها اليومية في ظل الأوضاع الصعبة التي فرضتها الحرب على حياتها وحياة أسرتها بقولها: "أصبحنا ننام متأخرين بسبب التوتر والقلق على أهلنا في الشمال، ومع صوت الطائرات المزعج الذي لا يفارقنا، أعيش كوابيس كل ليلة".
وتضيف آمال أن حياتها اليومية اختلفت بشكل جذري بسبب هذه الأوضاع "المفروض أن أتعلم وأدرس في سنّي هذه، لكن الحرب جعلت كل شيء يبدو غير مهم، لم نعد نفكر في تحقيق أحلامنا أو أهدافنا، بل أصبحنا نعيش في قلق مستمر حول ماذا سيحدث غداً"، وفق تعبيرها.
وفي إشارة إلى التأثير النفسي العميق للحرب، تروي آمال أنها بدأت تعاني من الكوابيس والأحلام المزعجة "أستيقظ أحياناً في منتصف الليل، وأتفقد المكان حولي، وكأن أحداً مفقود أو حدث شيء".
قبل الحرب لم يكن لدى الطفلة أي اهتمام في متابعة الأخبار، أما الآن فتلفت إلى أنها صارت وإخوتها يحاولون الحصول على الأخبار يومياً، وتقول: "صرنا نتمنى ألا نسمع عن أي أحداث مؤلمة بالقرب منا، أو من أحد أفراد عائلتنا".
أما الطفل سيف أسامة نعيم (10 أعوام) الموجود في خان يونس يعاني أيضاً من تأثيرات الحرب العميقة على حياته اليومية ونفسيته، ويقول سيف لـTRT عربي: "الظروف صعبة جداً، عندما أريد النوم، أشعر بالخوف، وأتجنب الخروج إلى الحمام خوفاً من أصوات الصواريخ والقصف وصوت الطائرات. قبل النوم، تكون مشاعري مضطربة، وفي الليل أحلم بالحرب".
يستذكر الطفل خلال حديثه سقوط أحد الصواريخ جانب خيمته بقوله: "أذكر أنه في أحد الأيام، سقط صاروخ قريب مني، وكانت أصوات الناس الذين يصرخون في الشوارع عالية، ما أثار رعبي وخوفي.. أنا لا أشعر بالأمان أبداً، وأظل مستيقظاً لفترات طويلة في الليل، لأنني أخاف أن يسقط صاروخ أو أي شيء آخر في أي لحظة".
وعلى مدار أكثر من عام تعمد جيش الاحتلال الإسرائيلي استهداف مناطق المدنيين وتجمعات نزوحهم رغم ادعائه بأنها "مناطق آمنة"، ما جعل قطاع غزة سجناً كبيراً قد يُقتل فيه الفلسطيني في أي لحظة.
وشكلت النساء والأطفال نسبة 70% من الضحايا الذين جرى التحقق من استشهادهم وفق مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان الذي اعتبر أن هذه الأرقام تعكس "انتهاكاً ممنهجاً" للمبادئ الأساسية التي أقرّها القانون الإنساني الدولي.
وبحسب تقرير للجنة الإنقاذ الدولية، ففي غزة لا توجد أماكن آمنة للمدنيين، ويشعر الأطفال بالآثار السلبية بشكل أكثر حدة وغالباً ما يعاني الأطفال الذين يتعرضون للعنف والنزوح، مما يعرف بـ"التوتر السام"، ما يعطل نمو أدمغتهم، ويمكن أن يؤدي إلى تحديات صحية طويلة الأجل.
وأشار التقرير إلى أن جيلاً كاملاً من الأطفال الآن مهدّد بأن يُنسى، إذ من المحتمل أن تؤثر الآثار التراكمية للعنف المستمر، والنزوح القسري، وفقدان عام دراسي كامل فيهم طوال حياتهم.
شعور بالعجز
من جهتها، تروي أم لطفلتين والنازحة من بيت حانون في شمالي القطاع إلى خان يونس عن معاناة طفلتها في ظل الظروف القاسية التي يمرون بها بسبب الحرب. وتقول: "أنا أم لطفلتين، كما ترون، الوضع في غزة يؤثر بشكل كبير في الأطفال.. بناتي يعانين الوضع نفسه، فقد جرى حرمانهن من أبسط حقوقهن، مثل التعليم. كثيراً ما يعبّرن عن رغبتهن في العودة إلى المدرسة واستعادة حقوقهن في العيش بكرامة في منزل آمن، وبين أصدقائهن وأفراد عائلتهن".
وتضيف في حديثها لـTRT عربي: "مثلاً، بناتي، خصوصاً الصغيرة منهن، لم يعد بإمكانهن رؤية بنات عمّهن، وعندما تسمع ابنتي صوت إحدى بنات عمّها عبر الهاتف، تبدأ البكاء شوقاً لها، ما يعكس تأثير الافتراق بين العوائل الذي سببته الحرب على نفسية الأطفال".
وتضيف الأم أن الخوف والقلق والترقب أصبحت جزءاً من حياتهم اليومية، "ابنتي الصغيرة تتابع الأخبار باهتمام وترقب بدلاً من أن تكون مشغولة بأحلامها وطموحاتها، أصبحت تركز على الأخبار، وتخشى مما يمكن أن يحدث".
وتتابع الأم قائلة: "أصبحنا نواجه صعوبات في تأمين أبسط احتياجات الحياة مثل الطعام والماء، حتى نقل المياه صار عبئاً كبيراً علينا، ناهيك عن معاناتنا من صعوبة الحصول على الطعام والشراب، ما يزيد من الضغط النفسي على الأطفال. كل هذه الأمور تجعلهم يعانون بشكل مضاعف جسدياً ونفسياً".
وتشير إلى أن الأطفال يتعرضون أيضاً لمشاهد صادمة عبر الهواتف، ومما يشاهدونه من مقاطع مصورة للمجازر التي تحصل، وعن هذا تقول: "رغم محاولتي إخفاء هذه الصور عنهم، فإنهم في سن المراهقة، ويفهمون ما يحدث حولهم. في بعض الأحيان يشاهدون مشاهد صعبة رغم محاولاتي حمايتهن هذا يسبب لهم الكثير من الأذى النفسي، فهم دائماً في حالة قلق وترقب".
وفيما يتعلق بالتأثير النفسي في أطفالها، تشير الأم إلى أن خوفهم أصبح شديداً لدرجة أنهم يعتقدون أن أي صوت قد يكون تهديداً: "أصبحوا يخافون من أي صوت، حتى لو كان صوت سيارة تمر بجانبهم، يظنون أنه صوت صاروخ أو انفجار، هذا الخوف جعلهم يعانون اضطرابات في نوم ويحلمون بكوابيس مزعجة، كثيراً ما يقولون لي ماما، لم نتمكن من النوم الليلة، كانت لدينا كوابيس".
وتختتم الأم حديثها بالدعاء: "الله يعيننا جميعاً، ويفرجها علينا، أطفالنا يعانون من آثار هذه الحرب بشكل كبير، ونحن كآباء نشعر بالعجز أمام معاناتهم".
تأثيرات نفسية متفاوتة
إحدى السيدات في خان يونس، وهي أم لثلاثة أطفال تروي عن معاناتهم النفسية منذ بداية الحرب في قطاع غزة، وتؤكد أن تأثيرات الحرب في الأطفال تتزايد مع مرور الوقت، وتتفاوت بالشدة من طفل إلى آخر.
وتقول لـTRT عربي: "الأطفال يعانون من تأثيرات نفسية مختلفة حسب أعمارهم. ابني البالغ من العمر 8 سنوات يستطيع فهم الوضع بشكل محدود، ولكن الأصعب هو التعامل مع الأطفال الأصغر، مثل ابني الصغير الذي لا يفهم ما تعني الحرب أو القصف.. لديهم أسئلة يصعب الإجابة عنها مثل: لماذا لا يوجد طعام؟ ولماذا لا نذهب إلى المدرسة؟".
وتضيف الأم أنها بدأت تلاحظ تأثيرات سلبية في صحة أطفالها، مثل الحمى والكوابيس في بداية الحرب، إذ كانت مشاعر الخوف والهلع تسيطر عليهم، وكانت تصعب عليهم التفاعل مع الآخرين "عندما نزحنا من بيت حانون إلى دير البلح، كانت حالتهم الصحية والنفسية تتدهور، وكانوا يعانون حالة مرضية شديدة خوفاً من القصف".
وتؤكد أن مشكلتها الكبرى كأم تكمن في الأسئلة التي لا تجد لها إجابات، ما يضاعف قلق الأطفال وعن هذا تقول: "أصبحوا يتساءلون عن سبب الجوع، ولماذا لا يوجد غاز للطهي، ولماذا لا يوجد دجاج؟ في بعض الأحيان، اضطررت إلى تقسيم الخبز لأننا لم نكن نملك طحيناً كافياً، وكانوا يسألون لماذا لا نستطيع أن نأكل مرتين في اليوم؟".
وتتابع الأم: "مع تكرار النزوح، يصبح الأطفال مجبرين على التكيف مع بيئات جديدة، ما يضيف مزيداً من الضغط على نفسياتهم، حالة الخوف التي كان أطفالي يعيشونها في بداية الحرب بدأت تتحول إلى نوع من التعود على القصف، لكن هذا لا يعني أنهم قد تأقلموا تماماً".
تعتبر السيدة أن نفسية الأم هي العامل الأهم في تشكيل نفسية الأطفال، فكلما كانت الأم قوية وقادرة على التأقلم، زادت قدرتها على تقديم الدعم لأطفالها وتتساءل: "إذا كنت ضعيفة نفسياً، فكيف لي أن أساعد أطفالي؟".
وكانت أصدرت كل من الأمم المتحدة ومنظمة هيومن رايتس ووتش تقريرين منفصلين، في 14 نوفمبر/تشرين الثاني، أكدتا خلالها أن إسرائيل وممارساتها خلال حرب غزة "تتسق مع خصائص الإبادة الجماعية" و ترقى إلى "جريمة حرب".
وقالت نادية هاردمان، الباحثة في قسم حقوق اللاجئين والمهاجرين في هيومن رايتس ووتش: "لا يمكن للحكومة الإسرائيلية أن تدعي أنها تحافظ على أمن الفلسطينيين عندما تقتلهم على طول طرق الهروب، وتقصف ما تسميه المناطق الآمنة، وتقطع عنهم الطعام والمياه والصرف الصحي".