في الوقت الذي اتجهت فيه أنظار العالم إلى المحكمة الجنائية الدولية التي انعقدت للبت في الإبادة الجماعية التي تتعرص لها أقلية الروهينغيا المسلمة في ميانمار على يد الجيش المدعوم من الدولة، نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019، كانت إسرائيل تستبق الأحداث، وتتمنى لزعماء ميانمار التوفيق في دفاعهم أمام المحكمة.
وعلى الرغم من أنّ هذه الأماني جاءت في تغريدة للسفير الإسرائيلي في ميانمار جلؤر رونين أثارت جدلاً دولياً ومحلياً ما دفع وزارة الخارجية إلى التنصل منها ودفع السفير إلى حذفها وإخفائها، إلا أنّ تل أبيب لم تستطع إخفاء تعاونها الكبير، ودعمها المفرط لجيش ميانمار، الذي تمدّه بأنواع السلاح، وتُقوّيه عبر التنسيق العسكري والأمني، فيما توصف العلاقات بين الجانبين بأنها متينة للغاية.
وبينما تسعى وزارة الخارجية الإسرائيلية عبر طواقمها المهنية الخاصة وأذرعها الإعلامية إلى نفي أي علاقة لتل أبيب مع جيش ميانمار الذي ينفذ عمليات إبادة بحق المسلمين حسب تقارير دولية، إلا أن "أخطاء" وقع بها سفيرا الدولتين، كانت كفيلة بفتح الأبواب المغلقة وتسليط الضوء على أكبر عملية دعم أمني وعسكري يتلقاها جيش ميانمار الذي انقلب مؤخراً على السلطة الحاكمة المنتخبة ديمقراطياً مستخدماً ما وقع في يده من سلاح.
هفوة السفير تكشف المستور
وكان سفير ميانمار لدى إسرائيل مونغ لين، قد كشف خلال مقابلة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2017 أن بلاده "تقيم علاقات أمنية مع إسرائيل، وتشتري منها السلاح لجيشها"، لكن سرعان ما عاد السفير ليتصدر وسائل الإعلام الإسرائيلية مجدداً لينفي تصريحاته التي "سقطت سهواً"، ليتبين لاحقاً أنه تعرض "للتوبيخ" من قبل الخارجية الإسرائيلية التي استدعته على الفور.
ولعل أكثر ما ساهم في كشف النوايا الإسرائيلية من دعم جيش ميانمار، هو بيان الخارجية الإسرائيلية الذي جاء تعقيباً على تصريحات السفير مونغ لين، والذي نفت فيه تل أبيب بيعها سلاحاً لميانمار، وهو ما ثبت عكسه تماماً خلال تلك الفترة عبر شواهد وأدلة وبراهين لم تستطع إسرائيل نفيها بعد ذلك.
أهلاً وسهلاً بالسلاح الإسرائيلي
"أهلاً وسهلاً بزوار سلاح البحرية في ميانمار"، هذا ما كُتب عام 2017 على لافتات وضعت في أحد موانئ ميانمار أثناء الاحتفال بقدوم سفينة "سوبر دفورة 3" الإسرائيلية، ووضعت إلى جانبها صور للسفن الجديدة التي باعتها إسرائيل للجيش في ميانمار قبل نصف عام من ذلك الحدث، تحديداً بينما كانت التقارير الأممية تشير بالأدلة إلى وقوع جرائم حرب وإبادة ضد الأقليات، والأقلية المسلمة على وجه الخصوص، وفق صحيفة "غولوبس" الإسرائيلية.
وتشير الصحافية الإسرائيلية غيلي كوهن إلى أن الصور (جرى حذفها من قبل جيش ميانمار عن منصات مواقع التواصل) تُظهر أنواع السلاح التي زُوّدت بها السفن الحربية لميانمار، إذ تبين أنّها تحمل رشاشاً متقدماً من إنتاج الصناعات الدفاعية الإسرائيلية وتحديداً شركة "ألبيت"، مشيرة إلى أن السفن لم تكن سوى جزء يسير من السلاح المُباع لجيش ميانمار بناءً على اتفاقية بين الجانبين.
ونقلت الصحافية عن مصدر مسؤول في الصناعات الدفاعية الإسرائيلية قوله إن تل أبيب ستبيع سفينتين إضافيتين لجيش ميانمار، مشيراً إلى أن "قائد سلاح البحرية التابع لجيش ميانمار زار تل أبيب عام 2016، "لقد أراد التعلّم".
ورفضت وزارة الدفاع الإسرائيلية الاستجابة إلى استفسارات الصحافية كوهن، واكتفت بالقول "وزارة الدفاع لا تريد التطرق إلى موضوع أمني كهذا".
وحاولت إٍسرائيل "عبثاً" مواراة علاقاتها بجيش ميانمار، وكانت قد قررت عقب تحقيق لصحيفة "هآرتس" أشارت فيه إلى أن وزارة الدفاع الإسرائيلية دعت قيادات جيش ميانمار للمشاركة في المعرض العسكري " ISDEF" في تل أبيب، أن تمنعهم من المشاركة بسبب الضغوطات، وتعمدت نشر قرار المنع عبر أذرعها الإعلامية إلا أن ذلك لا يعني أن العلاقات العسكرية بين الجانبين قد توقفت تماماً، على الرغم من الحرج الدائم الذي تسببه لتل أبيب على مستوى دولي ومحلي.
وانبرت وسائل إعلام في إسرائيل تحقق بهذه العلاقات بين جيشي البلدين، وكذلك أثير الأمر في قاعة الكنيست وفي المحكمة العليا عبر محامين إسرائيليين رفعوا دعاوى على وزارة الدفاع وطالبوا بالشفافية فيما يتعلق ببيع السلاح لميانمار.
القضاء الإسرائيلي.. هل أنصف المسلمين بميانمار؟
عام 2017 وفي ظل انتشار تقارير تؤكد العلاقات بين جيش إسرائيل وجيش ميانمار، تقدم المحامي الإسرائيلي إيتي ميك بدعوى قضائية للمحكمة العليا ضد بيع السلاح لميانمار، ما اضطر المحكمة لعقد جلسة خاصة بهذا الشأن، ثمّ أصدرت حكمها فيه.
لكن الحكم ظل طي الكتمان في سابقة من نوعها، إذ قررت المحكمة عدم نشر تفاصيل الجلسة والقرار والإبقاء عليه "رهن السرية التّامة"، وبذلك لا يمكن حتى اللحظة معرفة قرار السلطة التشريعية الإسرائيلية المتعلق ببيع السلاح لجيش دولة يستخدمه للتطهير العرقي والإبادة الجماعية، لكن ما جرى لاحقاً كان كفيلاً على الأقل بأن يشير إلى أن قرار المحكمة لم يكن في صالح أقلية الروهينغيا المسلمة أبداً.
طُويت صفحة عام 2017 وما حمله من عبء ثقيل على الجيش الإسرائيلي الذي سُلطت عليه الأضواء محلياً ودولياً وأثيرت الشبهات حول علاقته بنظيره في ميانمار، لكن العام الذي يليه، والسنوات التي بعدها كانت كفيلة بكشف استمرار هذه العلاقات سراً وعلانية، وهو ما يشير إلى إصرار إسرائيلي على على دعم الجيش الذي يتهم قادته دولياً بشكل رسمي بتنفيذ المجازر الجماعية ضد فئة من الشعب على خلفية دينية وقومية.
تعاون عسكري.. سلاح لقتل المسلمين
وبينما أعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية عام 2017 عدم ترحيبها بجيش ميانمار في معرض الأسلحة " ISDEF" في تل أبيب، إلا أن خبراء عسكريين من ميانمار ظهروا بشكل جلي وطبيعي في المعرض نفسه عام 2019، ما أثار يومها جدلاً واسعاً.
ويشير موقع "سيحاه مكوميت" الإسرائيلي إلى أن ممثلين عن جيش ميانمار ظهروا في المعرض العسكري بملابسهم الرسمية وكانوا يتجولون بين أنواع السلاح المعروض، "وذلك على الرغم من التجاوزات الخطيرة التي يقوم بها جيشهم بحق حقوق الإنسان في بلادهم، ما يدل على أن تصدير السلاح الإسرائيلي لميانمار مستمر".
ويقول الصحفي الإسرائيلي أورين زين إن "الإدانات الدولية لبيع السلاح لجيش ميانمار، كما يبدو لم يشكل أي عبء بالنسبة لإسرائيل التي تستضيف وفوداً عسكرية من جيش ميانمار في تل أبيب.
وعام 2019 نُظّمت وقفات احتجاجية في إسرائيل دعت إليها منظمات حقوق إنسان من ضمنها "منظمة العفو الدولية، ومنظمة "مسلحون" الإسرائيلية ومنظمة "نقف معاً" الإسرائيلية ضد زيارة وفد ميانمار العسكري.
ونقل موقع "سيحاه مكوميت" عن حين بريل آغري ممثل العفو الدولية في إسرائيل قوله "لقد شرحنا لكل زوار المعرض العسكري أن السلاح الإسرائيلي الذي يشترونه قد استخدم من أجل التطهير العرقي في ميانمار ضد المسلمين الروهينغيا، وكذلك من أجل التجسس على معارضي الأنظمة وسحق حقوق الإنسان في الإمارات".
علاقات ممتدة ومستمرة
تشير صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية إلى أن العلاقات بين إسرائيل وميانمار تمتد إلى عشرات السنوات، "إذ أسست الدولتين عام 1948، وقام رئيس وزراء ميانمار عام 1955 بزيارة تل أبيب لتكون أوّل دولة آسيوية تعترف بإسرائيل، فيما زار رئيس وزراء إسرائيل ديفد بن غوريون ميانمار عام 1961".
وتقول الصحيفة إن "بيع السلاح الإسرائيلي لميانمار ليس جديداً، إذ بدأ تماماً عام 1960 ".
وتؤكد أن العلاقات بين الجانبين لا تزال مستمرة، "فخلال عام 2020 وقعت ميانمار وإسرائيل قراراً لإقامة هيئة تجارية بين البلدين، كما اتفقا على أن تزود إسرائيل ميانمار بالتكنولوجيا، ودعم عملية التبادل التجاري بين الجانبين ومضاعفته.
ويكشف موقع "واللا" الإسرائيلي أن تل أبيب زودت جيش ميانمار بأنواع مُختلفة من السلاح من إنتاج صناعاتها الدفاعية، ضمن ذلك صواريخ مضادة للدروع، فيما عملت شركة الصناعات الدفاعية الإسرائيلية "ألبيت" على تحسين قدرات 36 مقاتلة تابعة لجيش ميانمار، وزوّدت الجيش بصاروخ جو-جو إسرائيلي، فيما اشترى جيش ميانمار من شركة "سولتام" الإسرائيلية 16 مدفعاً جرى تصديرها عبر موانئ سنغافورة.
وتكشف منظمة "مسلحون" الإسرائيلية المعنية بخروقات الجيش الإسرائيلي والصناعات الدفاعية، فقد باعت إسرائيل لميانمار أواخر عام 2017، 3 سفن حربية من طراز " Super Dvora Mk-3"، كما عملت على تحسين قدرات 120 مركبة عسكرية برازيلية الصنع يملكها جيش ميانمار، وبيع أنواع مختلفة من السلاح لسلاح البحرية.
جنرال مجازر الروهنيغيا يزور إسرائيل
عام 2014 وفي ظل صدور تقارير أممية تشير إلى جرائم الحرب والإبادة التي تتعرض لها أقلية الروهينغيا المسلمة على يد جيش ميانمار الذي يقوده الجنرال مين أونغ هيلانغ "الحكم العسكري عقب الانقلاب"، زار هيلانغ إسرائيل على رأس وفد من قيادات جيش ميانمار والتقى بقياداتها العسكرية وكذلك برئيسها رؤوفين ريفلين.
يقول موقع "واللا" إن "الجانب الإسرائيلي حاول التكتم على هذه الزيارة، لكن قائد جيش ميانمار نشر صوراً في صفحته بموقع فيسبوك ليبيّن نتائج زيارته إلى دولة تعد أهم دولة في مجال الصناعات الدفاعية في الشرق الأوسط، وكشف في حينه عن إجرائه سلسلة اجتماعات في إسرائيل بشأن شراء السلاح والتدريب والتوجيه العسكري، إضافة لشراء سفن حربية". كما نشر هيلانغ صوراً لزيارته إلى شركات صناعات دفاعية إسرائيلية من ضمنها "ألبيت" و "آلتا".
للمزيد، إقرأ:
- ميانمار.. الجيش يضع السلطات بيد حاكم عسكري متهم بإبادة مسلمي الروهينغيا
يعرف قائد الانقلاب وقائد الجيش في ميانمار الجنرال مين أونغ هيلانغ بأنه متهم بارتكاب “فظائع” ضد مسلمي الروهينغيا. كما أنه مدرج على قائمة العقوبات الأمريكية منذ ديسمبر/كانون الأول 2019، وذلك على خلفية انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ضد الروهينغيا في البلاد، وهم أقلية مسلمة يعيشون في ميانمار ذات الغالبية البوذية، بحسب ما ذكرت شبكة "CNN" الأمريكية.
وكان محققون من الأمم المتحدة قد دعوا مين أونغ هيلانغ إلى الاستقالة، وإلى ملاحقته مع خمسة قادة عسكريين آخرين أمام القضاء الدولي بتهم تتضمن ارتكاب جرائم "إبادة" بحق أقلية الروهينغيا المسلمة، فيما قررت شركة "فيسبوك" حظر صفحته الرسمية.