إلى جانب كونه معلماً معمارياً "ساحراً"، تحوّل "باب العامود" أشهر بوابات البلدة القديمة، إلى ساحة "للاحتجاجات" الفلسطينية، ضد الاحتلال الإسرائيلي.
ويستغل المقدسيون "باب العامود"، منذ سنوات عديدة، لرفع صوتهم ضد السياسات الإسرائيلية الساعية لـ"أسرلة" المدينة.
ومع بداية شهر رمضان، من كل عام، يستخدم الفلسطينيون "باب العامود" كـ"ساحة" للاجتماعات والاحتفالات، والأنشطة الثقافية .
لكنّ شرطة الاحتلال الإسرائيلي، وبشكل يومي، تعمل على تفريقهم، باستخدام القوة، وهو ما يسفر غالباً عن نشوب اشتباكات.
وبلغت الاشتباكات ذروتها مساء الخميس وفجر الجمعة، حيث شهدت المدينة مواجهات عنيفة بين الفلسطينيين من جهة، والشرطة ومستوطنين إسرائيليين من جهة أخرى.
وامتدت المواجهات إلى أحياء متفرقة من المدينة؛ وأعلنت الشرطة، صباح الجمعة، أنها اعتقلت أكثر من 50 فلسطينياً في المدينة.
وذكرت جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني (غير حكومية) أنّ 105 مقدسيين، أصيبوا، من بينهم 22 وصفت إصابتهم بالمتوسطة، ونقلوا إلى مستشفى المقاصد بالمدينة.
واشترك المستوطنون الإسرائيليون في الاعتداء على السكان العرب، حيث هاجموا منازلهم.
اعتداءات غير مبررة
ويقول زياد الحموري، مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، إن "شرطة الاحتلال الإسرائيلي تتعمد، منذ بداية شهر رمضان الجاري، التنكيل بالمواطنين الفلسطينيين في باب العامود وبدون مبرر".
وأضاف الحموري في حوار خاص لوكالة الأناضول "اعتاد المواطنون الفلسطينيون من سكان البلدة القديمة ومحيطها خلال شهر رمضان، وأيضاً في فترتي الربيع، والصيف، الحضور إلى باب العامود من أجل الترفيه عن أنفسهم خلال ساعات المساء".
وتابع الحموري: "منذ بداية شهر رمضان منعت الشرطة الإسرائيلية المواطنين من الوجود في مدرج باب العامود وأقامت حواجز حديدية للمرور فقط دون السماح للمواطنين بالجلوس".
وأشار الحموري إلى أن هذه الإجراءات تزامنت مع اعتداءات بالضرب والرصاص المعدني المغلف بالمطاط وقنابل الصوت والمسيلة للدموع، وهو ما فجّر الأحداث".
قلب القدس النابض
وخلال الأعوام الماضية، تصاعد دور "باب العامود"، ليصبح حيّزاً حيوياً لفلسطينيي القدس؛ يتجمعون عنده، وينظمون على أعتابه نشاطاتهم السياسية والاجتماعية، بما يشبه الدور الذي تؤديه مراكز المدن، أو ما يسمى بالدارجة "وسط البلد".
وبرز اسم "باب العامود" في ديسمبر/كانون الأول عام 2017، عقب إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب رسمياً اعتراف إدارته بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.
وآنذاك، تحوّل "باب العامود" إلى مركز الاحتجاجات الفلسطينية في القدس، ضد القرار.
كما تشهد مدرجات باب العامود، بين الفينة والأخرى، وقفات فلسطينية، بعضها تضامناً مع المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، أو إحياءً لذكرى مناسبات فلسطينية كنكبة فلسطين (1948)، أو ذكرى احتلال القدس (1967).
مركز المدينة
وباب العامود هو المدخل الرئيس إلى الأسواق التاريخية بالبلدة القديمة، والمسجد الأقصى، وكنيسة القيامة.
ويُشير باحثون في تاريخ القدس، إلى أن بناء باب العامود في موقعه الحالي يعود إلى زمن الرومان، فقد بناه الحاكم الروماني هيرودس الأول، ومن ثمّ أعاد بناءه الملك هادريان عام 135 ميلادية، بعد أن دمره الإمبراطور الروماني تيتوس.
وقد قيل إن سبب تسميته بباب العامود، وجود عامود مرتفع في ساحته الداخلية، ظلّ فيها حتى فترة الفتوحات الإسلامية.
أما البناء الحالي لباب العامود فيعود إلى العهد العثماني، وتحديداً لعهد السلطان سليمان القانوني الذي أمر في القرن السادس عشر الميلادي بإعادة بناء سور القدس، وترميم الأجزاء المهدمة منه.
وللباب أسماء كثر، منها باب دمشق، وباب نابلس، وباب النصر، وباب القديس أسطفان.
وفي مدخله كان هناك موقف للحافلات إلى كل مدن الضفة الغربية، وموقف آخر للسيارات المتوجهة إلى قطاع غزة.
وكان الفلسطينيون من مختلف أنحاء الأراضي الفلسطينية يفدون إلى القدس، عبر "باب العامود"، من أجل الصلاة بالمسجد الأقصى، والتبضع من أسواق القدس القديمة التاريخية.
ومن بين هذه الأسواق التي ما زالت قائمة حتى اليوم سوق خان الزيت واللحامين والقطانين والصاغة والخواجات.
وباب العامود، بمثابة "مركز المدينة"، منذ سنوات طويلة، فعنده كانت سلطات الاحتلال البريطاني (1917-1948)، تُنفذ أحكام الإعدام بحقّ الثوار الفلسطينيين، حسب مراجع تاريخية.
وعنده أيضاً، كان الفلسطينيون يعرضون برتقال مدينة يافا للبيع.
ومنذ أُطلِقَت خطوط المواصلات في مدينة القدس نهاية العهد العثماني، شكّل باب العامود محطة انتهاء السفر، فالحافلات تخرج منه وإليه.
قيود إسرائيلية
وعززت إسرائيل في العقدين الماضيين، من قبضتها على باب العامود، بشكل خاص.
فأقامت مدرجاً نصف دائري، يؤدي إلى الباب وأبعدت مواقف الحافلات والسيارات العمومية عنه.
وخلال الأعوام القليلة الماضية قطعت السلطات الإسرائيلية جميع الأشجار التي كانت قريبة منه وأقامت 3 نقاط شرطة دائمة.
ويشتكي الفلسطينيون من قيام عناصر الشرطة الإسرائيلية بإيقاف الشبان والتدقيق في بطاقات هوياتهم وأحياناً كثيرة إخضاعهم للتفتيش الجسدي فضلاً عن الاعتداءات بالضرب وأيضاً الاعتقال.
ويقول زياد الحموري، إن إسرائيل تريد من مجمل إجراءاتها في باب العامود "وقف الحركة الفلسطينية، باتجاه البلدة القديمة من خلاله".
وأضاف "هدف الإجراءات الإسرائيلية هو القضاء بشكل كامل على الحركة التجارية في أسواق البلدة القديمة، وذلك من خلال الحملات الضرائبية وتنفيذ إجراءات تمنع الفلسطينيين من ارتياد الأسواق التجارية في البلدة".
باب الشهداء
ومنذ عام 2015، قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلية العديد من الفلسطينيين على أعتاب باب العامود، خلال الهبّة الشعبية التي اشتعلت احتجاجاً على تصاعد الاقتحامات الإسرائيلية للمسجد الأقصى.
وآنذاك، أطلق الكثير من المقدسيين على منطقة باب العامود اسم "باب الشهداء".
وادعت القوات الإسرائيلية، أن هؤلاء الفلسطينيين حاولوا تنفيذ عمليات طعنٍ وإطلاق نار على الجنود والمستوطنين الإسرائيليين.
ولكنّ منظمات حقوقية فلسطينية وإسرائيلية ودولية، قالت في تقارير لها إن الشرطة الإسرائيلية قتلت العديد من الفلسطينيين، بمن في ذلك من هم في منطقة باب العامود، بشكل "غير مبرر في وقت لم يشكلوا فيه أي خطر حقيقي على القوات الإسرائيلية".
منطقة اجتماعية واقتصادية
وباب العامود هو وجهة المقدسيين الاجتماعية والاقتصادية، فعنده اعتادت مزارعات القدس والضفة الغربية، عرض بضائعهم من الفواكه والخضار.
وإلى حين قريب، كانت البسطات تعرض بضاعتها على طرفي الباب قبل أن تمنعهم البلدية الإسرائيلية في القدس، من ذلك.
كما غدا شائعاً لدى أهالي القدس، أن يجتمعوا بأصدقائهم ومعارفهم عنده، فعند السؤال بين الأصدقاء "أين سنجلس؟"، يأتي الجواب تلقائياً في كثير من الأحيان "على درجات باب العامود".
رمزية سياسية
يؤكد الباحث في تاريخ القدس، محمد مصطفى، الرمزية السياسية المتصاعدة لباب العامود لدى المقدسيين في السنوات الأخيرة.
وقال في حوار (سابق) مع وكالة الأناضول "أخذ الاحتلال منا باب الخليل الذي يُسمى كذلك باب يافا، كونه بداية الطريق نحو يافا، وأصبح اليوم منطلقاً إلى غرب المدينة ومستوطناتها، فاستعدنا استملاك المكان العام في باب العامود، وحاولنا تأكيد عروبته".
ويضيف مصطفى أن استعادة الفلسطينيين في القدس للمكان العام، متمثلاً في باب العامود أقلق السلطات الإسرائيلية، فأصبح أي تجمع ولو صغير وعشوائي يُقمع من قبل الشرطة.
ويتابع "في الأيام الأخيرة، بمجرد جلوس طلبة المدارس والشبان على درجات باب العامود وترديدهم الهتافات والأناشيد، تُستدعى كتيبة من القوات الخاصة الإسرائيلية حتى تخليهم من المنطقة".