وشهدت ليلة السبت الماضي انسحاب الآليات العسكرية الإسرائيلية من المحور، الذي أقامه جيش الاحتلال الإسرائيلي خلال الشهور كخط فاصل وسط القطاع، بعد أكثر من عامٍ وثلاثة أشهرٍ على احتلالها للمناطق الشرقية للقطاع.
وفرض جيش الاحتلال الإسرائيلي سيطرته على محور "نتساريم" مطلع نوفمبر/تشرين الثاني 2023، ليعزل محافظتي غزة والشمال عن مناطق الوسط والجنوب، ما أجبر قرابة مليون فلسطيني على النزوح إلى جنوب وادي غزة تحت وطأة القصف الإسرائيلي المكثف.
وفي 20 أغسطس/آب 2024، شدّد رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على أن إسرائيل "وتحت أي ظرف لن تغادر ممر نتساريم ومحور فيلادلفيا" على الحدود بين غزة ومصر، واللذين سبق أن زعم أنهما "أصولٌ استراتيجية" لإسرائيل.
والأحد، أكّدت حركة حماس أن انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من محور نتساريم وسط قطاع غزة يمثل "استكمالاً لفشل أهداف حرب الإبادة الإسرائيلية بالقطاع على مدار 15 شهراً".
وقال المتحدث باسم الحركة عبد اللطيف القانوع، في بيان، إن "عودة النازحين الفلسطينيين، واستمرار عمليات تبادل الأسرى، إلى جانب الانسحاب من نتساريم، يدحض كذب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حول تحقيق نصرٍ كاملٍ على شعبنا".
فيما قال محلل الشؤون العسكرية الإسرائيلي نوعام أمير، إن انسحاب جيش الاحتلال من محور نتساريم يعني "أننا نخسر بشكلٍ نهائي إنجاز الحرب في تطهير شمال قطاع غزة، والسماح لحماس بالحركة بحرية مرة أخرى بأي طريقة تختارها".
ما محور "نتساريم"؟
يعود اسم "نتساريم" إلى مستوطنةٍ إسرائيليةٍ سابقةٍ أقيمت في قطاع غزة قبل تفكيك المستوطنات عام 2005. ويعد المحور طريقاً استراتيجياً وسط القطاع، يربط بين شمال غزة وجنوبها، وتحيط به مناطق متنوعةٌ تشمل أراضي زراعيةً ومخيماتٍ للاجئين الفلسطينيين وتجمعاتٍ سكانية.
من جهة الشمال، يقترب المحور من حي الزيتون في مدينة غزة، وهو أحد أقدم أحياء القطاع وأكثرها كثافةً سكانيةً.
بينما من جهة الجنوب، يمر بالقرب من وادي غزة، وهو مجرى مائي يفصل المدينة عن المناطق الوسطى، ويتصل بمناطق المغراقة ومخيم النصيرات، الذي يُعد من أكبر تجمعات اللاجئين الفلسطينيين في وسط القطاع.
أما من الشرق، فيحده جحر الديك، وهي منطقة زراعية قريبة من الحدود مع إسرائيل، لطالما تعرضت للاستهداف العسكري بسبب موقعها المفتوح.
كما توجد أراضٍ زراعية شاسعة تمتد على طول المحور، استُخدمت سابقاً مناطقَ عازلة خلال الاحتلال الإسرائيلي لمستوطنة "نتساريم"، التي كانت تقطع التواصل بين شمال وجنوب غزة.
ومن الغرب، يتصل المحور بالطريق الساحلي عبر مفترق الشيخ عجلين، ما يجعله ممراً رئيسياً لحركة التنقل بين غزة والمحافظات الجنوبية.
وخلال الأشهر الماضية، دمّر جيش الاحتلال الإسرائيلي مئات المباني على جانبي المحور، في محاولةٍ لإنشاء منطقة عازلة وسط القطاع، وأقام شبكة واسعة من البؤر العسكرية، وأبراج الاتصالات، والتحصينات الدفاعية، ما حوّله إلى خطٍ عسكري.
وبدأ جيش الاحتلال الإسرائيلي التوغل باتجاه محور نتساريم مع الشروع في عمليته البرية في قطاع غزة في 27 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وفي بداية العملية البرية، بلغ طول المحور 8 كيلومترات، وعرضه بضعة مئات الأمتار، لكن إسرائيل وسّعته مؤخراً لتصير مساحته الكلية نحو 56 كيلومتراً مربعاً.
أصابع إسرائيل الخمس
وتتميز هذه المنطقة من قطاع غزة بتضاريسها المنبسطة وسهولة التحرك والتقدم فيها، وموقعها الجغرافي الذي يمنحها قدرة على فصل مدينة غزة عن المدن الجنوبية الأخرى كدير البلح وخان يونس ورفح.
وفي الحرب العالمية الأولى، وخلال معارك مدينة غزة الثلاث بين شهري مارس/آذار ونوفمبر/تشرين الثاني 1917، وبعد مقاومةٍ عنيفةٍ، تمكنت القوات البريطانية من السيطرة على مدينة غزة بعد الالتفاف على الجيش العثماني من خلال المنطقة المحاذية لوادي غزة.
وبعد الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة عقب حرب يونيو/حزيران 1967، شن جيش الاحتلال عمليات قمع واسعة ضد سكان القطاع، وبدأ في استراتيجية أمنية جديدة مرتكزة على الاستيطان، وطبق خطة عُرفت باسم "الأصابع الخمس".
وبموجبها، هدف الاحتلال، وفقاً لمنظمة بتسيلم الإسرائيلية، إلى كسر التواصل السكاني الفلسطيني بواسطة إقامة أربع كتلٍ استيطانيةٍ كبيرةٍ فوق مناطق واسعة.
وبالفعل، بدأ الاحتلال في بناء ممر استيطاني شمالي قطاع غزة، ضم ثلاث مستوطنات: نيسانيت، ودوغيت، وإيلي سيناي على أراضي بلدات بيت لاهيا وبيت حانون.
وفي وسط قطاع غزة، استُخدمت مستوطنة نتساريم لفصل مدينة غزة وشمالها عن جنوب القطاع. وفصل محور كيسوفيم بين مدينة دير البلح ومخيمات الوسطى ومحافظة خان يونس، فيما فصل محور صوفا بين خان يونس ومدينة رفح.
وأسهمت هذه المحاور في تقسيم مدن ومحافظات قطاع غزة، وصعّبت تنقل المواطنين الفلسطينيين، واستمر العمل بها حتى عام 2005، الذي شهد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من غزة وتفكيك المستوطنات، وعلى رأسها مستوطنة نتساريم.
الانسحاب الثالث في 20 سنة
بعد ثلاث سنواتٍ فقط من انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة، عادت وحدات جيش الاحتلال لاحتلال "محور نتساريم" ومحاصرة مدينة غزة خلال حربها على قطاع غزة 2008/2009.
ومن هذا المحور، هاجم الاحتلال أحياء الزيتون وتل الهوى في مدينة غزة، لكنه لم يستمر طويلاً، إذ انسحب مع انتهاء العمليات العسكرية في القطاع.
وخلال السنوات التالية، شهدت المنطقة ازدهاراً عمرانياً وسكانياً وخدماتياً، حيث أُقيمت عدة مشاريع إسكانية، مثل مدينة الزهراء ومدينة الأسرى، كما أُنشئت عدة جامعات ومستشفيات، بالإضافة إلى الحدائق العامة التي بُنيت على أنقاض المستوطنات الإسرائيلية المفككة.
وفي 31 أكتوبر/تشرين الأول 2023، ظهرت أول دبابة إسرائيلية على شارع صلاح الدين، الشارع الرئيسي الواصل بين مدينة غزة وشمالها ومختلف مناطق القطاع.
وبعد أيام، تمركزت الدبابات الإسرائيلية على شارع الرشيد البحري، مكملةً احتلال محور نتساريم. كما فتح الاحتلال طريقاً ممتداً من الحدود الإسرائيلية مع غزة إلى البحر، عُرف بـطريق 749، إضافة إلى إنشاء عدة مواقع عسكرية، ووضع حواجز مخصصة لمرور السكان على شارعي الرشيد الساحلي وصلاح الدين.
وكما انسحب الاحتلال من محور نتساريم عام 2005، ثم عام 2008، عاد لينسحب عام 2025، مفككاً مواقعه العسكرية، التي كان يسعى إلى إبقائها لفصل محافظات غزة، ومنع عودة النازحين إلى محافظتي شمال غزة ومدينة غزة، بعد حرب الإبادة التي خلّفت أكثر من 159 ألف شهيد وجريح فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، وما يزيد على 14 ألف مفقود، فضلاً عن إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم.