مع استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة لأكثر من شهرين، تحلّ ذكرى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى لتفتح جرحاً غائراً وتساؤلات عن أسباب غياب هبّة شعبية مشابهة.
وفي 8 ديسمبر/كانون الأول من عام 1987 انطلقت "انتفاضة الحجارة" ردَّ فعل على دهس شاحنة إسرائيلية لحافلة كانت تقلّ عمالاً فلسطينيين في أثناء انتظارهم التفتيش من أجل العبور من حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة.
استُشهد في تلك الحادثة أربعة عمال وجُرِح سبعة آخرون من سكان مخيم جباليا في شمال القطاع، ولاذ سائق الشاحنة العسكرية الإسرائيلية بالفرار على مرأى من جنود الحاجز، وفق وكالة الأنباء الفلسطينية الرسمية (وفا).
على إثر ذلك اندلع بركان غضب شعبي صباح اليوم التالي من مخيم جباليا حيث يقطن أهالي الضحايا الأبرياء، ليشمل قطاع غزة برمته وتتردد أصداؤه بعنف أيضاً في الضفة الغربية المحتلة، وذلك لدى تشييع الشهداء الأربعة.
لكن لم يكن هذا السبب الوحيد، فقد كانت خلفية الانتفاضة هي الاحتلال الإسرائيلي الذي دام 20 عاماً للضفة الغربية الفلسطينية وقطاع غزة والقدس الشرقية.
وحكمت إسرائيل الأراضي المحتلة بقبضة من حديد، إذ فرضت حظر التجول، ونفذت مداهمات واعتقالات وترحيلات وهدم منازل، وهو ما شكَّل دافعاً لانطلاقة هذه الانتفاضة بقوة.
وبينما اجتمع القادة الفلسطينيون لمناقشة الوضع المتصاعد، اندلعت الاحتجاجات والاشتباكات داخل مخيمات اللاجئين، وانتشرت بسرعة عبر الضفة الغربية والقدس الشرقية.
الأدوات والنتائج
وسيطر الفلسطينيون على الأحياء وأقاموا المتاريس على الطرق لمنع مركبات الجيش الإسرائيلي من الدخول، وكانوا غير مسلَّحين إلى حد كبير، ولم يدافعوا عن أنفسهم إلا بإلقاء الحجارة على الجنود ودباباتهم.
وأغلق أصحاب المتاجر أعمالهم ورفض العمال الذهاب إلى أماكن عملهم في إسرائيل، كما أعلنوا الإضرابات في شكل جديد من أنواع الاحتجاج.
وعرّف الجيش هذه الأعمال بأنها "أعمال شغب"، وتحرك بقوة لقمع الاحتجاجات بإطلاق الرصاص المطاطي والذخيرة الحية وقنابل الغاز المسيل للدموع على الحشود، واتسعت الاحتجاجات حتى شارك فيها عشرات الآلاف من الأشخاص، بمن فيهم النساء والأطفال.
ورغم استخدام الفلسطينيين للمظاهرات والحجارة فقط في الانتفاضة، فإن قوات الاحتلال قابلت ذلك باستخدام العنف المفرط، وردّت بإطلاق النار على المتظاهرين، ما أدى إلى استشهاد وجرح الآلاف.
كما تبنَّت إسرائيل سياسة ما يُعرف بـ"تكسير العظام"، إذ عمد الجنود، تنفيذاً لقرار وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك إسحاق رابين، إلى ضرب راشقي الحجارة بالعصي، بهدف كسر أطرافهم.
وحسب وكالة الأنباء الرسمية الفلسطينية، استُشهد في الانتفاضة 1550 فلسطينياً، وجُرِح ما يزيد على 70 ألفاً، وعلى الجانب الآخر قُتل 256 مستوطناً و127 جندياً على أيدي الفلسطينيين.
واعتُقل 100 ألف فلسطيني، فضلاً عن 18 ألف معتقل إداري (من دون تهمة أو محاكمة)، كما كشفت إحصائية أعدتها مؤسسة التضامن الدولي أن 40 فلسطينياً قضوا آنذاك داخل السجون ومراكز الاعتقال الإسرائيلية، بعد أن استخدم المحققون معهم أساليب التنكيل والتعذيب لانتزاع الاعترافات.
وحسب وكالة الأنباء الفلسطينية، "جرى هدم 447 منزلاً فلسطينياً على الأقل هدماً كاملاً، وإغلاق 294 منزلاً فلسطينياً إغلاقاً تاماً باعتباره عقاباً، إضافة إلى هدم 81 منزلاً فلسطينياً هدماً كاملاً خلال عمليات البحث عن المطارَدين، وهدم 1800 منزل فلسطيني بحجة بناء أصحابها من دون ترخيص".
المكاسب السياسية
استمرَّت الانتفاضة لمدة 6 سنوات قبل أن تنتهي بتوقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993، التي جرى على إثرها تشكيل السلطة الفلسطينية في العام التالي.
وعن النتائج والمكاسب السياسية للانتفاضة، يقول أستاذ الدراسات الشرق أوسطية في جامعة حيفا محمود يزبك إنّ "الانتفاضة الأولى نجحت بشكل كبير جداً لأنها أجبرت المحتل على أن يبدأ في مشروع مفاوضات مع الفلسطينيين والوصول إلى اتفاق أوسلو".
ويضيف يزبك لـTRT عربي أن "الاتفاق في بداياته كان واعداً، إذ آمن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين أن استراتيجية الاحتلال والسيطرة لا تفيد إسرائيل، قبل أن يُقتل وينتهي الحلم".
وكان رابين اغتيل برصاص المتطرف اليهودي إيغال عامير في تل أبيب في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 1995، بعد أن توصل إلى اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية.
ويشير أستاذ الدراسات الشرق أوسطية إلى أن مقتل رابين أفشل الخطة، وساء الأمر كذلك مع وفاة الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات عام 2004 في ظروف غامضة.
ويرى يزبك أن "ذلك يُعَدّ دليلاً آخر على أنه كان هناك إمكانية لنجاح أوسلو، لأن رابين كان يعتقد أن الطريق الصحيح يكمن في الوصول لإقامة دولة فلسطينية بجانب إسرائيل، لكنه قُتل وانتهى المشروع".
ويشير إلى أن "من جاء بعده لم يكُن يستطيع أن يحقق الحلم، بل على العكس كان من ورث رابين هو بنيامين نتنياهو، الذي يعارض الدولة الفلسطينية بشكل تام ويحلم بإسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر كدولة واحدة".
ويردف: "أقيمت سلطة فلسطينية، وكان من المفترض أن تكون هذه مرحلة أولى، لكنها أصبحت نهائية، والآن ندفع ثمن قتل كل من آمن بإقامة دولة فلسطين مثل عرفات ورابين".
ويلفت يزبك إلى أن "الحلم الذي بدأ يتطور مع أوسلو جرى القضاء عليه، ودخلنا في واقع جديد هو عدم الاعتراف بوجود شعب فلسطيني له حق تقرير مصيره بيده".
أين الانتفاضة اليوم؟
وتأتي ذكرى الانتفاضة في وقت يتواصل فيه العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على خلفية عملية طوفان الأقصى التي بدأتها فصائل المقاومة الفلسطينية، إذ وصل عدد الشهداء إلى أكثر من 17 ألفاً، مع تسبب الاحتلال بدمار هائل في البنية التحتية، و"كارثة إنسانية غير مسبوقة"، حسب مصادر رسمية فلسطينية وأممية.
وإضافة إلى نيران الاحتلال الموجَّه إلى غزة، اشتدت حدة المواجهات في الضفة الغربية منذ بدء العملية، بما فيها القدس الشرقية وبلدتها القديمة، وسط اقتحامات واعتقالات وعمليات قتل شبه يومية في المدن والبلدات الفلسطينية.
وعن أسباب عدم اندلاع انتفاضة على غرار 1987 وانتفاضة الأقصى عام 2000، يقول يزبك إنّ "في المجتمع الفلسطيني تغيرات مع نتائج أوسلو تقود إلى عدم وقوع هبَّة مشابهة، على سبيل المثال، أدت اتفاقية أوسلو إلى تفكيك جغرافيا الضفة الغربية وجعل الاتصال ما بين أطرافها مستحيلاً".
وقسمت اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير وإسرائيل أراضي الضفة إلى 3 مناطق، وهي منطقة "أ" تخضع لسيطرة فلسطينية كاملة، و"ب" تخضع لسيطرة أمنية إسرائيلية ومدنية وإدارية فلسطينية، و"ج" تخضع لسيطرة مدنية وإدارية وأمنية إسرائيلية، وهو ما سهل على الاحتلال إقامة الجدران العازلة والأسوار حول المدن وزيادة الحواجز، فلم يعُد بين السكان في المنطقة الواحدة اتصال جغرافي واجتماعي، وفق يزبك.
ويستدرك: "لو أن قرية أو مدينة ما ستنتفض اليوم فلن تجد لها ظهيراً يشارك في هذه العملية السياسية المجتمعية، بسبب التقسيم الجغرافي من قِبل إسرائيل التي حولت الضفة الغربية إلى مربعات معزولة بعضها عن بعض".
ومن هنا فإنّ قوات الاحتلال تستطيع تنفيذ عملية اقتحام خلال دقائق لأي مدينة أو قرية يصدر منها تهديد، وهو أمر يسهل السيطرة وإخماد أي حراك، بعكس ما كانت الحال عليه في انتفاضة الحجارة.
أمّا السبب الآخر -وفق يزبك- فيتمثل بارتباط نسبة كبيرة من السكان بشكل كامل بسياسة السلطة الفلسطينية، نتيجة لتوظيف أعداد كبيرة بالضفة، سواء كانوا قوات أمنية أو موظفين عاديين.
ويبلغ عدد الموظفين العموميين في فلسطين (على رأس عملهم) قرابة 140 ألف موظف مدني وعسكري، وفق تقارير محلية نُقلت عن وزارة المالية.
ويشير أستاذ الدراسات الشرق أوسطية إلى أن "هؤلاء يخشون التظاهر إذا لم تكن هناك إشارة واضحة من المشغل (السلطة)، التي لا يوجد لديها إرادة ولا برنامج لتشجيع الناس للانتفاض على الاحتلال".
ويرى أنه إسرائيل استطاعت عبر أوسلو أن تسيطر، ليس فقط على الأرض ولكن أيضاً على سياسات السلطة الفلسطينية، وذلك عبر الربط المادي، وهو ما يكبل المواطنين ويدفعهم إلى الخوف من التحرك خشية خسارة وظائفهم.
ويعزز ذلك أيضاً، وفق يزبك، كثرة الحواجز الأمنية وكاميرات المراقبة الإسرائيلية المتطورة، التي تجعل المواطن يشعر أنه تحت سيطرة كاملة، وأنه قد يُعتقل مباشرة بعد أي حراك.