وكان ترمب يعقد تجمّعاً انتخابياً في ولاية بنسلفانيا يوم السبت الماضي، عندما تمكن شاب عمره 20 عاماً يحمل بندقية من طراز "AR-15-style rifle" من الاقتراب بدرجة كافية لإطلاق النار عليه من سطح مبنى، "وهي محاولة اغتيال أدت إلى تفاقم الانقسام السياسي المرير بالفعل في الولايات المتحدة"، حسب محللي الشأن الأمريكي.
وأثارت محاولة الاغتيال ذاكرة الأمريكيين الذين سبق أن شهدوا اغتيالات عدّة لرؤساء، إلّا أن المفارقة كانت أنها عملت على توحيد البلاد بدلاً من تمزيقها، إذ أوردت صحيفة "نيويورك تايمز" تحليلاً إخبارياً استذكرت فيه حادثة اغتيال الرئيس الأمريكي الأسبق، رونالد ريغان عندما أُصيب برصاص شاب يعاني من مرض عقلي، كان يسعى من ورائه لفت الانتباه في عام 1981.
وقالت الصحيفة: "توحدت البلاد خلف الزعيم المصاب، وذهب رئيس مجلس النواب الديمقراطي توماس ب. أونيل الابن، والدموع في عينيه إلى غرفة الرئيس الجمهوري في المستشفى، أمسك يديه، وقبّل رأسه، وركع على ركبتيه ليدعو من أجله".
"تمزيق لأمريكا"
ويرى تحليل صحيفة "نيويورك تايمز" أن محاولة اغتيال ترمب من المرجح أن تؤدي إلى تمزيق أمريكا أكثر من التوحيد للم شملها، إذ إنه في غضون دقائق من إطلاق النار، امتلأ الهواء بالغضب والمرارة والشك واللوم، ووجهت أصابع الاتهامات، وجرى طرح نظريات المؤامرة، وانقسم البلد الغاضب بالفعل أكثر من أي وقت مضى".
وأضافت أن "حدة التوتر السياسي بين الحزبين زادت في أعقاب إطلاق النار في بتلر، بنسلفانيا، وألقى الديمقراطيون اللوم في العنف السياسي على ترمب، معتبرين أنه ساهم في نشوء بيئة مواتية له".
في المقابل، اتهم الجمهوريون بايدن وحلفاءه بتشجيع العنف عبر خطابهم، الذي يُصور ترمب على أنه "فاشي يُهدد الديمقراطية". وهكذا، تحولت الحادثة إلى صراع سياسي حاد، إذ يرى كل طرف الآخر مسؤولاً عن التصعيد وتأجيج العنف.
كما هاجم المقربون من ترمب، منهم ابنه الكبير، والمُخطط الاستراتيجي لحملته الانتخابية، اليسار السياسي في غضون ساعات فقط من إطلاق النار، حتى قبل تحديد هوية المسلح أو دوافعه.
وكتب كريس لاسيفيتا، وهو مستشار رفيع لترمب سابقاً على منصة إكس: "حسناً، بالطبع حاولوا إبعاده عن الاقتراع، وحاولوا وضعه في السجن، والآن ترى هذا". لكن حملة ترمب سرعان ما تراجعت لاحقاً عن هذه التعليقات وفق "نيويورك تايمز" وجرى حذف المنشور كما أرسلت مذكرة يوم الأحد من لاسيفيتا وسوزي وايلز، وهي مستشارة رفيعة المستوى، تعليمات لأعضاء فريق ترمب بعدم التعليق على إطلاق النار.
وقالت الصحيفة: "على أي حال، يمكن أن تُغذّي هذه الحادثة رواية ترمب حول كونه ضحية اضطهاد من الديمقراطيين".
وبعد إصابته في المهرجان، صرخ ترمب، الذي كان الدم يُلطخ وجهه ورفع قبضته محيياً الجماهير بقوله "قاتلوا! قاتلوا! قاتلوا!".
بينما وصف نجاته من محاولة الاغتيال بأنها كانت تجربة "سريالية"، وقال في مقابلة مع صحيفة "نيويورك بوست" الأمريكية، "لم يكن من المفترض أن أكون هنا، كان يفترض أن أكون ميتاً".
حالة استقطاب شديدة
وبحسب "نيويورك تايمز"، جاء إطلاق النار في وقت تعاني فيه الولايات المتحدة بالأصل حالة استقطاب شديدة على أسس أيديولوجية وثقافية وحزبية، بل يبدو في كثير من الأحيان أنها منقسمة إلى دولتين، بل حتى إلى واقعين مختلفين. واليوم لا يرى الأمريكيون أنفسهم، بل ينظرون إلى أنفسهم كأنهم "على جانبي خطوط انقسام عميقة وحادة.
وأظهر استطلاع رأي أجرته مؤسسة "ماريست" في شهر مايو/أيار الماضي أن 47% من الأمريكيين يعتبرون أن حرباً أهلية ثانية محتملة أو محتملة جداً ستحصل في حياتهم، وهي الفكرة التي دفعت هوليوود إلى إطلاق فيلم يتخيل كيف يمكن أن تبدو تلك الحرب، حسب ما أشارت إليه "نيويورك تايمز".
ويُقارن كثيرون عام 2024 بعام 1968، عندما شهدت الولايات المتحدة صراعات عرقية واضطرابات في المدن، واغتيال مارتن لوثر كينغ جونيور وروبرت ف. كينيدي. كما أدّت المظاهرات ضد حرب فيتنام إلى انسحاب الرئيس ليندون جونسون من سباق الانتخابات الرئاسية في ذلك العام.
وقال مايكل كازين، المؤرخ بجامعة جورج تاون، إن العنف السياسي له تاريخ طويل في أمريكا. وقال: "كما حدث في عام 1968 -أو 1919 أو 1886 أو 1861- فإن العنف الذي حدث للتو أمر لا مفر منه في مجتمع منقسم بشدة مثل مجتمعنا.. وبالطبع هناك في الواقع عنف أقل في السياسة الآن مما كان عليه في تلك السنوات الأخرى".
من جهتها، أوردت وكالة رويترز تحليلاً قالت، إنه "في غضون ساعات من محاولة اغتيال الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب، بدأ العديد من مؤيديه بتوجيه اللوم إلى الديمقراطيين، ساعين إلى قلب السيناريو حول من أشعل الخطاب السياسي المتوتر في أمريكا في الوقت الذي تصل فيه حالات العنف السياسي إلى مستويات تاريخية".
وانطلاقاً من الجمهوريين المنتمين إلى التيار الرئيسي ووصولاً إلى أصحاب نظريات المؤامرة من اليمين المتطرف، ظهرت رسالة متسقة مفادها أن الرئيس جو بايدن وغيره من القادة الديمقراطيين مهدوا الطريق لإطلاق النار يوم السبت من خلال تصنيف ترمب على أنه حاكم مستبد يشكل تهديداً خطيراً للديمقراطية.
وفي تحليل أجرته رويترز لأكثر من 200 حادثة عنف بدوافع سياسية بين عامي 2021 و2023 أفاد أنه ففي تلك السنوات، كان العنف السياسي المميت ينبع في أغلب الأحيان من اليمين الأمريكي وليس من اليسار.
بدوره، طلب الرئيس الأمريكي جو بايدن مساء الأحد من الأمريكيين "خفض حرارة المناخ السياسي والتذكر أنّهم جيران"، بعد إصابة خصمه الجمهوري برصاص مُحاولة اغتيال.
وقال بايدن إنّ إطلاق النار على ترمب في بنسلفانيا يوم السبت "يدعو كل واحد منّا إلى التراجع خطوة للوراء"، ومعرباً عن امتنانه لعدم إصابة ترمب بجروح خطيرة.
"أفضل دعاية لترمب"
وكان الموقع الإلكتروني للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب نشر صباح اليوم الاثنين صورته ووجهه ملطخ بالدماء لحث أنصاره على التبرع لحملته والتحلي "بروح الوحدة والسلام بعد إطلاق النار عليه في مطلع الأسبوع"، وفق رويترز.
ويعيد الموقع توجيه المتبرعين المحتملين إلى صفحة على منصة (ويند ريد) لجمع التبرعات، التي تعرض صورة لترمب بالأبيض والأسود التقطها مصور من وكالة أسوشيتد برس الأمريكية، ووصفها ترمب بأنها "خالدة".
وقال ماثيو ويلسون، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ساوثرن ميثوديست لوكالة "بلومبيرغ" في تحليل إخباري إن: "تلك الصور التي تظهر دونالد ترمب المتحدي، والدماء على وجهه وقبضته في الهواء هي أفضل من أي دعاية يُمكن أن تُشترى بالمال".
واعتبر أن "هذه الحادثة ستساعد ترمب لفترة من الوقت على الأقل مع المستقلين نظراً لأن الأغلبية العظمى من الجمهوريين والديمقراطيين قد قرروا اتجاهاتهم منذ وقت طويل".
وأفاد تحليل "بلومبيرغ" بأن "هذه الحادثة توضح براعة ترمب في تحويل الشدائد إلى مزايا، إنها الدوافع نفسها التي دفعت حملته الأولى الناجحة للرئاسة، وكذلك في حملته لعام عانى فيها سلسلة من الأحداث التي كانت تلحق ضرراً بالغاً بالطموحات السياسية لأي شخص آخر".
لكن الآن، تعمل محاولة الاغتيال على تعزيز سيطرة ترمب على الحزب مع استعداده لترشيحه في المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري الذي يبدأ يوم الاثنين في ويسكونسن، وفي الوقت نفسه، يكافح بايدن لقمع تمرّد داخل حزبه بشأن قدرته على خوض حملة إعادة انتخاب ناجحة بعد أدائه الكارثي في المناظرة، حسب "بلومبيرغ".