تنوعت الأكمنة المحكمة التي نصبتها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة لجيش الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء الهجوم البري قبل 4 أشهر، بين استهداف دقيق لناقلات الجُند، واستدراج قوات إسرائيلية خاصة إلى داخل أنفاق وتفجير فوهات أخرى، وضرب مبانٍ داخلها جنود كانوا يعملون على تفخيخها تمهيداً لنسفها.
وأعلنت كتائب القسَّام، الجناح العسكري لحركة المقاومة حماس، في 8 فبراير/شباط الجاري تدمير أكثر من 1108 آليات إسرائيلية بقذائف "الياسين 105" منذ بداية الحرب، مشيرة إلى أن مُجمل تلك الاستهدافات أسفرت عن مقتل وإصابة عدد كبير من الضباط والجنود الإسرائيليين.
وأضافت القسَّام أن الآليات المدمَّرة شملت 962 دبابة و55 ناقلة جُند و74 جرافة و3 حفارات و14 مركبة عسكرية، قبل أن تكشف تنفيذها 57 مهمة بسلاح القنص، منها 34 ببندقية الغول في الثاني والعشرين من الشهر ذاته.
في المقابل، وصل عدد الجنود والضباط الذين قُتلوا منذ بدء الهجوم البري إلى 240 عسكريّاً، وَفق أحدث الأرقام لجيش الاحتلال الإسرائيلي، بينما ارتفع عدد القتلى العسكريين الإسرائيليين منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول إلى 579، وهي أرقام تقول المقاومة إنها "لا تعكس الحقيقة"، وإن إسرائيل "تتكتم على خسائرها البشرية".
أبرز الأكمنة
ومع بدء التوغل الإسرائيلي إلى مناطق القطاع، قتلت المقاومة 11 جنديّاً إسرائيليّاً باستهداف مدرعة "النمر" شمالي القطاع، وأفضى تحقيق إلى أن انفجار الذخيرة فيها قضى على كامل أفرادها.
وفي 12 ديسمبر/كانون الأول الماضي قُتل 9 جنود وضباط في كمين بعد استهداف المقاومة مبانيَ عدة تحصَّن فيها جنود الاحتلال في حي الشجاعية شرقي غزة، وبعد شهر بثت كتائب القسَّام مشاهد لكمين استدراج قوة إسرائيلية داخل نفق في حي الشيخ رضوان شمالي غزة.
ورغم استخدام الاحتلال طائرة "كواد كابتر" وكلاباً بوليسية وكاميرا مراقبة قبل دخول النفق، نجح مقاتلو حماس في استدراج القوة الإسرائيلية إلى النفق والإطباق عليها، وتفجير عبوة ناسفة فيها.
وكان الكمين الأبرز شرقي مخيم المغازي، وسط القطاع، عندما قُتل 21 جنديّاً إسرائيليّاً في 22 يناير/كانون الثاني الماضي، إثر انفجار نَجَم عن قذيفة صاروخية أطلقتها المقاومة، وأصابت مواد متفجرة كان الجنود الإسرائيليون يستعدون لتفخيخ مربع سكني بها، مما أدى إلى انفجار وانهيار المباني على رؤوسهم، ثم تفجير حقل ألغام بقوات النجدة.
أسباب نجاح الأكمنة الفلسطينية
يقول الخبير العسكري والاستراتيجي العقيد الركن حاتم الفلاحي، إن حرب غزة شهدت أكمنة للعجلات والأفراد، وأخرى مدبرة وثالثة على عجَل، وجميعها استخدمت المقاومة من خلالها التخريبات المؤجَّلة عندما يجري تفخيخ فتحات الأنفاق أو بعض البيوت وتفجيرها.
ويضيف الفلاحي لـTRT عربي أن المقاومة استخدمت أيضاً أنواعاً مختلفة من العبوات الناسفة وحقول الألغام التي فاجأت قوات الاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً عندما وَظَّفت بعض الصواريخ غير المنفجرة واستخدامها لتدمير بعض الدبابات.
أما حول نجاح المقاومة في نصب الأكمنة المحكمة، يوضح الفلاحي أنها كثيرة لأنها تتبع حرب العصابات التي تعتمد على نصب الأكمنة والفخاخ بسبب الاختلال الكبير في موازين القوى، ما يدفع المقاومة إلى استخدام هذه التكتيكات لإيقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوف جيش الاحتلال.
ويلفت الخبير العسكري إلى أن حرب العصابات ليست للمواجهة المباشرة، وإنما لاستغلال نقاط ضعف الاحتلال عندما يكون في موقع تعبوي ليس في صالحه، أو في موضع لا يستطيع فيه اتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف هذه الهجمات.
ويشير إلى أن المقاومة تعرف الأرض جيداً وتوظِّفها ببراعة لتنفيذ عملياتها العسكرية، وكذلك الأنفاق التي أعطت مقاتلي "حماس" قوة وميزة في التنقل والظهور خلف خطوط العدو أو الوصول إلى أهداف لا يمكن الوصول إليها من خلال سطح الأرض.
ويبيّن أن المقاومة استطاعت توظيف الأسلحة والذخائر بطريقة تمكنها من استخدام السلاح المناسب لضرب الهدف المناسب، علاوةً على معلومات استخبارية دقيقة مكَّنتها من معرفة تحركات الاحتلال وإمكانية الوصول إليه، وأيضاً التخطيط لإدارة معارك غزة.
"جيش لا يتعلم من أخطائه"
ويؤكد الفلاحي أن جيش الاحتلال لا يتعلم من أخطائه، مستشهداً بتصريحات إسحاق بريك (قائد إسرائيلي سابق لسلاح المدرعات) مفادها أن هذا الجيش "غير مدرب للقتال في المناطق المبنية".
ويضيف أن الحكومة الإسرائيلية قلَّصت جيشها وفضَّلت الاعتماد على التكنولوجيا بوجود جيش صغير بتقنيات عالية، قبل أن يقول إن هذه السياسة أثبتت فشلها في الحرب، لأن الجيش غير قادر على حرب العصابات وقتال المدن، فضلاً عن تمرد جنود الاحتياط الإسرائيليين.
ويلفت الخبير العسكري إلى أنه لا يوجد تدريب جيد لقطاعات هذا الجيش، ولا مراقبة أو متابعة، "لذلك لم يعتمد على خطط رصينة استناداً إلى معلومات دقيقة، مما أدى إلى خسائر كبيرة في صفوفه".
ويؤكد الفلاحي أن "جيش الاحتلال توغل شمالي القطاع ووسطه وجنوبه ولديه من القوات والقدرات العسكرية ما تمكنه من التوغل، لأنه يتبع استراتيجية مباشرة بمنظومة قيادة وسيطرة مركزية تقابلها استراتيجية غير مباشرة للمقاومة تعتمد على حرب العصابات واللا مركزية في التنفيذ من خلال مجاميع صغيرة، لذلك استطاع التوغل ولكن بتكلفة باهظة جدّاً".
مزايا المقاوم الفلسطيني
بدوره يقول الخبير والمستشار في عمليات الدفاع الجوي العقيد الركن أسامة عودة، إن المقاومة الفلسطينية لديها نقاط قوة أدت إلى توجيه ضربات مؤلمة ضد قوات وآليات ومعدات جيش الاحتلال، الذي لم يستطع كسر إرادة المقاومة أو الغزيين.
ويوضح عودة في حديثه مع TRT عربي، نقاط القوة، مثل العقيدة القتالية الراسخة، والقناعة المطلقة بضرورة التخلص من الاحتلال، مؤكداً أن المقاوم الفلسطيني أذهل المحللين العسكريين بشجاعته وتضحيته، مما يدل على تلقيه جرعات وافرة من التدريب والإعداد البدني والنفسي الذي يؤهله للتحلّي بالصبر والتحمل والعمل تحت أقسى الظروف في بيئة العمليات.
ويضيف أن المقاومة الفلسطينية فاجأت العالم بامتلاكها شبكة أنفاق ضخمة فشل الاحتلال في اكتشاف أو تدمير معظمها، "فمَن حفروا هذه الأنفاق لا يمكن هزيمتهم بسهولة"، مشيراً إلى أن الاحتلال لا يمتلك الحافز والدافع المعنوي للقتال.
ويؤكد عودة أن معرفة المقاوم الفلسطيني بأرضه ميزة وقيمة إضافية، فهو يستطيع استخدام الأرض والمباني المهجورة والمدمَّرة وتحقيق المفاجأة في الزمان والمكان والأسلوب، ويمكنه الاستفادة من هذه المعرفة في ممارسة التمويه والتخفي عن أنظار العدو وخداعه والتستر من نيرانه وصنع الأكمنة وجرّه إلى مناطق تقتيل ومحاصرته ومهاجمة الجنود وقتلهم أو أسرهم.
ويبيّن أن المقاوم الفلسطيني يمتلك القدرة على التسلل وقنص جنود الاحتلال وإعطاب آلياته، ويستطيع الحركة بسهولة بسبب الأسلحة والتجهيزات المحدودة التي يمتلكها، وهو قادر على التوقع والتنبؤ باتجاه حركة العدو، وبالتالي إعداد العبوات الناسفة وتلغيم المباني والأنفاق واستخدام المقذوفات والقنابل اليدوية وإطلاق الأعيرة النارية.
ويشير عودة إلى حالات كان يحدث فيها انقطاع اتصالات بين جنود إسرائيليين والقيادة المباشرة، فتواجه تلك القيادة معضلات في البحث والإنقاذ وعمليات تحرير الأسرى وإجلاء القتلى والجرحى ومعداتهم، لافتاً إلى أن سلاح الجو الإسرائيلي لا يستطيع توجيه الضربات للأهداف القريبة من الجنود خوفاً من وقوع إصابات في إطار ما يسمى "التدمير الجانبي" أو "القتل بنيران صديقة".
معضلة الدفاع الجوي
ويرى عودة أن المقاومة الفلسطينية لو امتلكت أسلحة دفاع جوي مناسبة وكافية لتغيّرت نتيجة الحرب، لأن ميزان القوى في هذا الجانب يميل بشكل مطلق لإسرائيل التي تمتلك وسائل التهديد الجوي الحديثة والمتطورة، التي تتمثَّل بشكل رئيسي في الطائرات من مختلف الأنواع والاستخدامات، والمُجهزة بوسائل الاستطلاع والاستهداف والقادرة على توجيه الضربات بدقة وفاعلية تدميرية عالية.
ويستدرك المستشار في عمليات الدفاع الجوي: "لكن رغم ذلك استطاعت المقاومة بما تيسر لها من أسلحة دفاع جوي أرضية محدودة جدّاً توجيه بعض صواريخ الدفاع الجوي ذات المدى القصير نحو طائرات الاحتلال العمودية".
واستخدمت المقاومة المبدأ المعروف في عمليات الدفاع الجوي، وهو "استخدام الأسلحة المتوفرة كافة في دور الدفاع الجوي"، ورغم أن المقاومة لم تتمكن من صد وتدمير أهداف الاحتلال الجوية، فهي أسهمت في التأثير في قدراته الجوية بعمليات خاصة وتوجيه رشقات صاروخية وقذائف مدفعية نحو قواعد جوية وأهداف حيوية إسرائيلية، ونجحت في تدمير منشآت وبنى تحتية، وفق عودة.
ويتابع: "اتخذت المقاومة في غزة تدابير تندرج ضمن مفهوم الدفاع الجوي السلبي، التي تتمثل في التخفي والتستر والتمويه والخداع والانتشار وتحصين المواقع والملاجئ، مما أدى إلى الحفاظ على القدرات الصاروخية وتقليل الإصابات بين القيادات والمقاتلين، وتشتيت جهود العدو وتشكيكه في قدراته وزعزعة ثقته بنفسه نتيجة عدم تحقيق إصابات دقيقة، مما أوصله إلى الجنون ومحاولة تعويض فشله باستهداف المنشآت المدنية".
ويوضح عودة أن سلاح الجو الإسرائيلي "ليس العامل الحاسم الوحيد في تحقيق أهداف العمليات القتالية في قطاع غزة"، مشيراً إلى أن المقاومة قادرة على تصنيع وإطلاق الصواريخ والمسيّرات والقذائف، وصمودها حتى هذه اللحظة دليل دامغ على قوتها وتماسكها، وفشل أهداف الحرب الإسرائيلية على القطاع".