بعد أيام عصيبة مر بها لبنان على إثر التفجير المهول الذي هز العاصمة بيروت، يترقب الجميع قرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان المتعلق باغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري عام 2005.
تشكلت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان -ومقرها في ضواحي لاهاي- على إثر قرار من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على خلفية التفجير المهول الذي استهدف موكب رئيس الوزراء اللبناني آنذاك رفيق الحريري، الذي كان معارضاً لوجود القوات السورية في لبنان، مما فجّر لاحقاً ما عُرف بثورة الأرز. وجرى توجيه أصابع الاتهام إلى حزب الله، وتشكلت لاحقاً هذه المحكمة للتحقيق بهذه الجريمة والبت فيها.
لم تكن هذه المحكمة هي أولى "المحاكم الجنائية المخصصة" لجريمة معينة، فيوجد ما عرف بمحكمة الخمير الحمر في كمبوديا ومحكمة سيراليون وقبلهما محكمتا يوغسلافيا ورواندا، إلا أن هذه المحكمة تميزت عن سابقاتها بأنها أول محكمة تبت في "الإرهاب" كجريمة مستقلة عن الجرائم الأخرى المعروفة في القانون الجنائي الدولي، وأنها أول محكمة مخصصة لمقتل شخص بعينه، إضافة إلى تبنِّيها سياسة الشفافية مع الجمهور، مما سلط الأضواء عليها دولياً.
ومما لا شك فيه أن قضية بهذه الحساسية في بلد تشهد بيئته السياسية حالة من الحساسية المفرطة مثل لبنان، لم تكن لتمر من دون تجاذبات سياسية واتهامات للمحكمة والشهود بنزاهتهم، وهذا ما دفع المحكمة إلى إنشاء وحدة التوعية المتخصصة بمخاطبة الجمهور لتكون أول محكمة جنائية دولية تقوم بذلك.
سلطة المحكمة وتفويضها
طالب القرار رقم 1664 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة عام 2006، الأمين العام للمنظمة بالتشاور مع رئيس الوزراء اللبناني من أجل تأسيس محكمة دولية للبت في هذه الجريمة، ولكن بسبب الانسداد السياسي الحاصل في لبنان آنذاك، تأخر افتتاح المحكمة حتى عام 2009.
استمدت المحكمة تفويضها من لجنة الأمم المتحدة الدولية المستقلة التي كانت مفوضة للتحقيق بالجريمة من مجلس الأمن، وبالتالي أصبحت المحكمة صاحبة التفويض الجنائي للبت واتخاذ القرار في المسألة.
وكان التفويض مرتبطاً بـ"محاكمة كل من تبين تورطه بالجريمة الإرهابية التي قتلت رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري وآخرين"، إلا أنه كان يوجد العديد من الاحتجاجات على التفويض "الضيق" للمحكمة ممن طالبوا بأن يشمل تفويضها عدداً من الهجمات التفجيرية الشبيهة بدأ من عام 2004. وفور افتتاحها، تبنت المحكمة القانون الجنائي اللبناني إضافة إلى القوانين السارية على المحاكم الدولية الأخرى.
القضايا التي بتت فيها المحكمة
كانت أبرز القضايا التي بتت فيها المحكمة ما عرف بـ"عياش وآخرون" التي شملت إضافة إلى سليم عياش: مصطفى بدر الدين، وأسد صبرا، وحسين عنيسي، وحسن حبيب مرعي، وجميعهم ينتمون إلى حزب الله اللبناني.
سارع الحزب على لسان أمينه العام حسن نصر الله برفض الاتهامات وتأكيد استحالة تسليم المتهمين لأي حكومة واتهام المحكمة بأنها جزء من مؤامرة أجنبية. إلا أن القضية قوبلت بترحيب سعد الحريري ابن رفيق الحريري الذي رآها لحظة تاريخية.
وبعد فشل محاولات العثور على المتهمين لمحاكمتهم حضورياً، حكمت المحكمة بناء على مبدأ "مصلحة العدالة" بمحاكمة المتهمين غيابياً. وفي 2016، تحدثت تقارير عن مقتل مصطفى بدر الدين في دمشق، وعلى إثر ذلك أغلقت المحكمة ملفه مع الاستمرار في المرافعة الرئيسية. وجرت بعض المرافعات الإضافية لشخوص وكيانات اتهمتها المحكمة بعدم التزام أوامرها.
القرار وتبعاته على الحزب
مما لا شك فيه أن تبعات القرار على لبنان وحزب الله معتبرة، وهذا ما يفسر التجاذبات السياسية المصاحبة لسير المحكمة. فعلى مستوى المسؤولية الجنائية، إن أدين الأعضاء المنتمون إلى حزب الله في القضية، فإنهم سيكونون معرضين للعقوبات التي تحددها المحكمة في حال عُثر عليهم.
ولكن الأخطر من ذلك -بالنسبة إلى حزب الله- هو أن تثبت المحكمة تورط الهيكلية التنظيمية للحزب في ذلك، أي أن يثبت أن الأفعال التي ارتكبها هؤلاء الأعضاء كانت ضمن خطة مدروسة للحزب وجرت تحت إمرته، ولم تكن أفعالاً فردية من أولئك الأعضاء، ما يسمى بالمصطلح القانوني: مسؤولية القيادة أو المسؤولية الهرمية عن الجرائم.
ففي حال جرى ذلك، فإن الحزب قد يكون معرضاً لأن يوصف لأول مرة من جهة ذات سلطة قانونية دولية بالإرهاب -علماً أن الحزب قد وُصف مراراً بالإرهابي- وقد ينبني على ذلك مزيد من العقوبات المالية والتضييق على عناصره تحديداً في الدول التي لا تنظر بشكل إيجابي إلى الحزب.
وقد يُطرح تساؤل حول جدوى صدور قرار جنائي دولي في المسألة، بالإشارة إلى عدم وجود سلطة دولية تفرض هذه القرارات، فإن علينا استحضار بنية القانون الدولي وطبيعته المختلفة عن القانون المحلي للدول.
ففي القانون المحلي، توجد سلطة تنفيذية ينبثق عنها قوة شرطية تفرض قرارات الجهة التنفيذية والقضائية. أما في القانون الدولي، فإن الالتزام أمر طوعي مصدره رغبة الدول في الالتزام، وهذا وإن كان فيه إشكالية بالتطبيق في حالة الدول والكيانات المارقة، فمن الصعب وصفه بـ"غير المجدي" أو "الهامشي".
ففي ظل المنظومة الدولية الحالية، لا يمكن تجاهل دور المؤسسات الدولية والقانون الدولي في التأثير على الأحداث أو على الصورة، وهذا ما يفسّر تجنيد العديد من الدول لطاقات هائلة من أجل إقناع المجتمع الدولي بوجهة نظرها.
فعلى الصعيد العملي، لو افترضنا إدانة الأعضاء الأربعة والحزب نفسه، فإنه وإن كان من غير المتاح محاسبة المرتكبين مباشرة، فإن الضرر الذي سيلحقه بالصورة هو أمر ليس بالهين. كذلك فإنه سيفتح الباب أمام حزمة من الإجراءات لعدد من الدول بشكل أحادي ضد الحزب وأعضائه، سواء مالياً أو فيما يتعلق بحرية الحركة. ويوجد العديد من الدول التي لا تنظر للحزب بإيجابية، ستنظر إلى هذا القرار كمبرر لحزمة إجراءات ضد الحزب.
وإضافة إلى هذا وذاك، فإن الضرر الإعلامي الذي سيحدث للصورة في حال إدانة الأعضاء لن يكون أثراً عابراً. وفي ظل ما يشهده لبنان من انهيار اقتصادي، واحتقان على خلفية تفجير مرفأ بيروت، والانسداد السياسي الذين لا يوجد له في الأفق أي حل، فإن أي قرار دولي قد يفتح المشهد أمام السيناريوهات كافة.