لم يعد هذا المشهد جديداً في قطاع غزة الذي تستمر معاناة ساكنيه مع اقتراب إتمام الحرب شهرها التاسع وسط نقص حاد في إمدادات الغذاء ومواجهة 96% من السكان انعداماً حادّاً للأمن الغذائي، وفق الأمم المتحدة.
وبعد وقوفها لساعات ورغم المزاحمة والتدافع، تقترب السيدة الفلسطينية، رفقة أبو وطفة، من نقطة توزيع الطعام، للحصول على قِدرٍ ممتلئ من الأرز، مؤكدة أن "عائلتها مكونة من عشرة أفراد وتريد ما يكفيهم".
تخرج السيدة حاملةً القِدر مبتسمة لإنجازها المهمة الصعبة، في مشهد يختصر ما وصلت إليه مراحل التجويع الممنهجة التي يفرضها الاحتلال مع استمراره تقييد دخول المساعدات وإغلاق المعابر.
"اعتمادنا على التكيات"
تقول السيدة رفقة لـTRT عربي إن آخر وجبة تناولتها كانت "الفريكة" (حبوب القمح)، قدّمتها التكية في منطقتها، "أكلت منها أنا وأولادي وأحفادي، لكن الأكل الذي نحضره لا يكفي، وفي الأيام الأخرى نسدّ النقص عبر المعلبات المتوفرة".
والتكية وصف اسم لمكان تقديم الطعام والشراب، وكانت ملجأ للفقراء والمحتاجين، ومع اشتداد الحرب في غزة ونقص الغذاء برزت هذه المبادرات في أغلب تجمعات النازحين.
تؤكد السيدة عدم وجود أي نوع من الخضار والفاكهة بقولها: "صحة أجسامنا تتراجع من قلة الغذاء ونعاني سوء التغذية".
وتضيف أنها وعائلتها كانوا يعتاشون من ورشة أخشاب كانت رزقهم الوحيد، لكنها تعرضت للتدمير بسبب قصف الاحتلال الإسرائيلي ولم يعُد لديهم أي مصدر رزق منذ 8 أشهر. تختتم رفقة حديثها بأنها تعيش "جسداً بلا روح في هذه الحياة".
ومن ذات تجمع التكية التي تقدّم الأرز وشوربة العدس في جباليا، تشكو الحاجة مريم الطناني الجوع وفقدان الطعام، مما جعلها تخسر ما يقارب 30 كيلوجراماً من وزنها من "قلة الطعام والخوف والمرض"، بحسب ما قالته لـTRT عربي.
وتضيف أنها وسط هذه الظروف الصعبة تعاني مرض السكر والضغط، إذ "لا أطعمة مناسبة لوضعها الصحي ولا أدوية ولا علاج".
ومن طريق يملأ الركام والدمار جانبيه بسبب القصف، يصل الحاج مازن عودة للحصول على قليل من شوربة العدس لأفراد عائلته المكونة من 15 نفراً، بعدما نفدت من عندهم المعلبات، مؤكداً أن "المجاعة دبت في شمال قطاع غزة".
ويتحدث عودة ويبدو من ورائه الدمار بأن "اليوم الناس وضعها تحت الصفر، فلا يجدون الأكل ولا الشرب من 9 أشهر".
ويضيف: "وصلنا إلى مرحلة أن نأكل المعلبات باستمرار أو العشب والسلق"، مشدداً على أن الطعام الذي يقدمونه في التكايا لا تكفي أفراد عائلته.
وتحمل المعلبات خطراً مضاعفاً في فصل الصيف بسبب ارتفاع درجات الحرارة ما يمكن أن يسبب تلفها أو بسبب طول فترة التخزين وانتهاء صلاحيتها.
وفي 24 يونيو/حزيران الحالي أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، رصد حالات تسمم في صفوف الفلسطينيين بسبب تناول أغذية معلبة منتهية الصلاحية نتيجة للنقص الشديد في الطعام بالقطاع.
وقال الإعلامي الحكومي في بيان، إن "السكان يأكلون معلبات منتهية الصلاحية ما يتسبب في تسمم أعداد كبيرة منهم"، مضيفاً أن "المجاعة والأمراض تتزايد بين سكان القطاع بخاصة الأطفال منهم".
وتابع بأن "الاحتلال الإسرائيلي يمارس سياسة التجويع الممنهج ومنع المدنيين في غزة من العلاج".
سوء التغذية يهدد حياة الأطفال
وفي جنوب قطاع غزة أفاد مراسل TRT عربي سامي برهوم، بوصول أعداد كبيرة من الأطفال المصابين بحالة الهزال والضمور في العظام يومياً، بخاصة إلى مجمع ناصر الطبي والمشافي الميدانية كالمشفى البريطاني والمشفى التابع للصليب الأحمر والمشفى الأمريكي بسبب عدم وجود الطعام الجيد ولا المياه النظيفة وبقائهم تحت الحر الشديد في الخيام.
ويشير برهوم إلى أن أكل المعلبات سبب حالات التسمم لانتهاء تاريخها وحفظها في أماكن تحت الشمس لا مكان بارد.
وأكد أن قلة الغذاء بدأت تنعكس على الأطفال، بخاصة الخدج الذين ليس لهم تطعيمات ولا الحليب الذي قد يساعد على تقويتهم، فضلاً عن فقدان الطعام الأساسي الذي يحتاج إليه الأطفال في سنواتهم الأولى والثانية مثل البيض والخضار واللحوم.
وحذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" من فقد قرابة 3 آلاف طفل إمكانية العلاج من سوء التغذية المعتدل والشديد في جنوب غزة، مما يعرضهم لخطر الموت وسط استمرار أعمال العنف والتهجير المروعة تعطّل إمكانية وصول الأسر اليائسة إلى مرافق الرعاية الصحية وخدماتها.
وقالت أديل خضر، المديرة الإقليمية لليونيسف في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: "لا تزال الصور المروعة من غزة تظهر أطفالاً يموتون أمام أعين أسرهم بسبب استمرار نقص الطعام والمواد الغذائية وتدمير خدمات الرعاية الصحية".
96% من سكان غزة في مواجهة المجاعة
وكانت الأمم المتحدة حذرت في 25 من يونيو/حزيران من استمرار المخاطر العالية لحدوث مجاعة بأنحاء قطاع غزة في ظل استمرار الصراع والقيود المفروضة على الوصول الإنساني.
وقال التقرير إن نحو 96% من سكان غزة (2.1 مليون شخص) يواجهون مستويات مرتفعة من انعدام الأمن الغذائي الحادّ، متوقعاً استمرار هذا الوضع حتى سبتمبر/أيلول 2024.
وذكر تقرير التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي، الذي يشارك في إعداده عدد من الوكالات الإنسانية، أن كل قطاع غزة يُصنَّف بأنه في حالة طوارئ وهي المرحلة الرابعة من التصنيف التي تسبق المجاعة (المرحلة الخامسة).
وتأتي هذه التحذيرات وسط استمرار عرقلة دخول المساعدات وسيطرة جيش الاحتلال الإسرائيلي على معبر رفح منذ منذ 7 مايو/أيار الماضي، الذي كان يعد ممراً رئيسياً لدخول المساعدات للقطاع.
وتوقع مارتن غريفيث، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، في 12 يونيو/حزيران الحالي أن يواجه نصف سكان غزة الموت والمجاعة بحلول منتصف يوليو/تموز المقبل، ما لم يُسمَح بحرية وصول المساعدات.
وانقطع دخول المساعدات للقطاع منذ سيطرة الجيش على المعبر في 7 مايو وحتى 24 من ذات الشهر، حينما اتفق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره الأمريكي جو بايدن، على نقل المساعدات عبر معبر كرم أبو سالم الإسرائيلي وتسليمها للأمم المتحدة إلى حين بحث آلية تشغيل معبر رفح.
وسبق أن قال المكتب الحكومي بغزة في بيان، إن تدمير إسرائيل للمعبر عاق إدخال أكثر من 15 ألف شاحنة مساعدات للقطاع ما زالت عالقة على المعابر.
وقالت مصادر محلية لوكالة الأناضول، إن عدد شاحنات المساعدات "الشحيحة" التي تصل إلى قطاع غزة عبر كرم أبو سالم، تبلغ نحو 50 شاحنة يومياً لافتة إلى أنه في بعض الأيام قد لا تدخل مساعدات بتاتاً.
بدورها تقول القائمة بأعمال مدير مكتب الإعلام والتواصل في "أونروا" في غزة إيناس حمدان لـTRT عربي، إن "الظروف الإنسانية عموماً في قطاع غزة من شماله إلى جنوبه معقدة وكارثية جدّاً بسبب استمرار الحرب على عدة مناطق في القطاع غزة إذ يتقلص العمل الإنساني بشكل مقلق لكون الأونروا لا تستطيع الوصول إلى عدد من منشآتها في مناطق القتال".
أما المساعدات الإغاثية التي تدخل عبر معبر كرم أبو سالم، فتؤكد حمدان أنها تدخل بكميات شحيحة جدّاً لا تكاد تكفي الحاجات الضخمة والملحة والضرورية لقرابة مليونَي شخص في قطاع غزة.
وتلفت إلى النقص الحادّ في الموادّ الغذائية والضروريات من الأدوية والمستلزمات الطبية، وأن ما يصل من وقود لا يكاد يكفي 10% من احتياجات الأونروا لتشغيل المنشآت والمولدات الكهربائية وضخ المياه ومحطات التحلية.
وتشدّد حمدان على أن معدلات انعدام الأمن الغذائي ترتفع بشكل مخيف، إذ فقد أطفال حياتهم بسبب سوء التغذية والجفاف، وأن الأونروا حتى هذه اللحظة لا يُسمح لها بالعمل بفاعلية في مناطق غزة والشمال إلا عن طريق تعاون وبعثات تنسّقها منظمات أممية أخرى "رغم من الوضع الإنساني الكارثي جدّاً هناك"، بحسب قولها.