وصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمس الخميس إلى بكين، في زيارة رسمية تنتهي اليوم، تلبية لدعوة نظيره الصيني شي جين بينغ، في الذكرى 75 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، التي بدأت باعتراف الاتحاد السوفييتي بجمهورية الصين الشعبية التي أعلنها ماو تسي تونغ عام 1949.
ورافق الرئيس الروسي وفد به 5 نواب لرئيس الوزراء، ووزراء الخارجية والاقتصاد والوزارات الأمنية، والمسؤولون عن الجهاز الفيدرالي للتعاون العسكري الفني والسكك الحديدية الروسية، بالإضافة إلى حكام 20 مقاطعة روسية.
وتعد هذه الزيارة الأولى للرئيس الروسي للخارج منذ فوزه بولايته الرئاسية الخامسة في مارس/آذار الماضي، والثانية للصين منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.
"اختيار الصين ليس صدفة"
خلال مباحثات الرئيس الصيني ونظيره الروسي أمس الخميس، وقّعَت الدولتان إعلاناً مشتركاً حول تعميق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بينهما، وفق ما ذكرته هيئة الإذاعة العامة الصينية "CGTN"، وشدد الرئيس شي على أهمية الروابط الصينية-الروسية موضحاً أنها "تمضي جيداً، في ظل تعزيز التنسيق الاستراتيجي الشامل ومواصلة التعاون في مجالات الاقتصاد والتجارة والاستثمار والطاقة وغيرها".
من جانبه قال بوتين إن تعاون موسكو وبكين في الشؤون العالمية يُعَدّ "أحد عوامل الاستقرار الرئيسية على الساحة الدولية"، مشيراً إلى أن روسيا والصين "تدعمان مبادئ العدالة والنظام العالمي الديمقراطي الذي يعكس حقائق متعددة الأقطاب ونظاماً عالمياً قائماً على القانون الدولي"، وفق ما ذكرته وكالة تاس الروسية.
وأضاف بوتين أن الصين شريك تجاري رئيسي لروسيا طول 13 عاماً، وكشف عن أن حجم التجارة الثنائية بين روسيا والصين يبلغ نحو 20 تريليون روبل، أو ما يقارب 1.6 تريليون يوان (219 مليار دولار)، مشيراً إلى أن 90% من حجم التبادل التجاري بالعملتين المحليتين للبلدين.
ووفق ما أوردته بلومبرغ، وصلت تجارة الصين مع روسيا إلى مستوى قياسي بلغ 240 مليار دولار في عام 2023، بزيادة 63% على عام 2021، ووصلت بالفعل إلى الهدف الذي خطّطتا له في عام 2024. وخلال تلك الفترة أصبحت روسيا العام الماضي أكبر مورّدي النفط إلى الصين.
التقى الرئيسان أكثر من 40 مرة منذ وصول شي إلى السلطة في عام 2012، وفي وقت سابق قبل الزيارة صرّح مساعد الرئيس الروسي للشؤون الدولية، يوري أوشاكوف، أن اختيار الصين أول وجهة خارجية لبوتين لم يكن من قبيل الصدفة.
وفي هذا الصدد يقول أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية محمد سليمان الزواوي، إن لهذه الزيارة إشارة رمزية إلى أن الصين هي الشريك الأول لروسيا وأن التعاون الاستراتيجي بينهما في أعلى مستوى له.
ويوضح الزواوي لـTRT عربي أنه مع الحظر الاقتصادي على روسيا فإنها تجد ملجأ لها في الصين، خصوصاً في تصدير الغاز والنفط، كما أن الصين ترغب في تعميق العلاقات مع روسيا لأنها ستستفيد أيضاً على الجانب الآخر، خصوصاً أن الدولتين لديهما طموح في ما يتعلق بتعديل النظام الدولي والنظام المصرفي العالمي وإيجاد بديل للدولار.
رغبات وتحديات مشتركة
حسب بلومبرغ، تواجه موسكو وبكين ضغوطاً متزايدة من الغرب بشأن الصراع في أوكرانيا، وأنشطة الصين في منطقة المحيط الهادئ، كما تواجه المعاملات المصرفية بينهما عقبات متعددة، ففي الأسابيع الأخيرة كثفت الولايات المتحدة تحذيراتها للبنوك والمصدّرين الصينيين بشأن العواقب "إذا ساعدوا على تعزيز القدرة العسكرية الروسية".
وفي مقابلة مع التليفزيون الحكومي الروسي الأسبوع الماضي، قال السفير الصيني لدى روسيا، تشانغ هانهوي، إن العقوبات الأمريكية تسببت في "بعض الاضطرابات" في التجارة بين البلدين، مضيفاً أن الجانبين الروسي والصيني يجريان مشاورات نشطة "ويسعيان لإيجاد حلول فعالة في أسرع وقت ممكن".
وترى الباحثة في العلاقات الدولية والمتخصصة في الشأن الصيني رزان شوامرة، أن التقارب الصيني-الروسي بالأساس تعزز لمواجهة الهيمنة الأمريكية، "وعند الولايات المتحدة، الصين تمثّل الخطر الأكبر والتهديد الذي تجب مواجهته، لا روسيا".
وتتابع شوامرة لـTRT عربي، أن نشاط السياسة الخارجية الصينية في الفترة الأخيرة، يشير إلى تصاعد أهمية الصين دوليّاً ما يثير غضب الولايات المتحدة ويعزز حدة التنافس بين البلدين.
ويتفق معها الأكاديمي والخبير السياسي محمود الحمزة، قائلاً إن بين الصين والولايات المتحدة تنافساً كبيراً اقتصاديّاً و جيوسياسيّاً، "لا تركزان فيه على الجانب العسكري بل على التوسع الجيوسياسي".
ويؤكد الحمزة في حديثه مع TRT عربي، وجود تحديات مشتركة أمام روسيا والصين، إذ تقف أمريكا لهما بالمرصاد، وكذلك توجد ضغوط هائلة عليهما من الدول الغربية.
على الجانب الآخر يقول الحمزة إن البلدين أيضاً بينهما مصالح مشتركة كبيرة، فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي أصبحت الولايات المتحدة القطب الوحيد المسيطر في العالم، لكن روسيا والصين تريدان أن يكونا لهما صوت في العالم، لذا فكل تعاون بينهما هو تأكيد لأهمية هذا المبدأ وحماية مصالحهما الاقتصادية وأمنهما القومي.
من الناحية الاقتصادية، يرى الدكتور محمد سليمان الزواوي أن تلك الزيارة خطوة جديدة في الشراكة الصينية-الروسية، لا سيما وأن الطرفين عضوان في منظمة بريكس، وفي ظل الشراكات التجارية بين الصين وروسيا، ستتعزز مكانة بريكس على مستوى العالم.
هل تؤثر الزيارة في مسار الحرب الروسية-الأوكرانية؟
ترى المتخصصة في الشأن الصيني رزان الشوامرة، أنه لن يكون أي تأثير يُذكَر في مسار الحرب بفعل هذه الزيارة، لسببين: أولهما أن روسيا عملت على خلق واقع لا يمكن تغييره في أوكرانيا ولو توقفت الحرب، ففي العام الماضي أصدرت الصين وثيقة عن رؤيتها لحلّ الصراع، وكان ردّ زيلينسكي أنه لن يقبل أي حلّ "قبل إعادة المناطق التي احتلّتها روسيا"، وهذا تحديداً ما ترفضه روسيا.
أما السبب الثاني فتقول الشوامرة إن "الدبلوماسية الصينية تجاه الأزمة الأوكرانية لا تضع على عاتقها مسؤولية حل الصراع، وكانت واضحة تماماً في اتهامها واشنطن بأنها السبب في اندلاع الحرب وأنها المسؤولة عن حله، إذ قال شي لبايدن في مكالمة هاتفية في بداية الحرب: "دع مَن ربط الجرس في رقبة النمر يخلعه"، بمعنى أن "الصين لن تتدخل للضغط من أجل وقف الحرب".
فيما يرى الدكتور محمود الحمزة، أن زيارة الرئيس الروسي للصين قد يكون لها تأثير في السلام، إذ بحث الجانبان المسألة الأوكرانية في 2023، وقدمت الصين مبادرة للسلام في أوكرانيا، وحينها كانت روسيا متحفظة قليلاً على المبادرة.
ويعتقد الحمزة أن روسيا في هذه الزيارة تحدثت بلغة أكثر إيجابية من العام الماضي عن المبادرة، ورحّبوا بالدور الصيني في التوسط إلى حل الأزمة الأوكرانية، قائلاً: "يبدو أن الروس تَقدَّموا خطوة إلى الأمام باتجاه مبادرة الصين".
عقبات في وجه تطور العلاقات
على الرغم من الزيارات المتبادلة والتعاون المعلن، ترى رزان الشوامرة أن أمام الصين في تطور علاقتها مع روسيا مجموعة من العقبات، أولها يأتي في ظل الحرب، إذ لا تريد الصين وضع علاقاتها الدولية وصعودها في خطر.
وتتابع بأن الصين أكدت في مواقف مختلفة أنها لا تنشئ تحالفات مع أحد، وأن المبدأ الرئيسي في سياستها الخارجية هو الشراكات لا التحالفات، الأمر الذي يشير إلى أن الصين لا ترغب في تحمل أي مسؤولية دولية حقيقية.
أما العقبة الثانية بحسب الشوامرة، فتأتي على صعيد العلاقات الثنائية، "فالمخاوف الأمنية الصينية تتزايد بشأن عدوانية روسيا في محيطها الإقليمي واستخدامها القوة العسكرية للسيطرة منذ عام 2008"، والصين كدولة صاعدة "تفضل ديسمًا روسيّاً لا دبّاً في محيطها الجغرافي، بخاصة وأنها تتشارك معها أطول حدود".
أما على الصعيد الدولي، فتقول المتخصصة في الشأن الصيني إن العقبة الثالثة، هي اختلاف وجهات النظر في ما يتعلق بالنظام الدولي، "فنظرياً تتفق روسيا والصين على رفض الهيمنة الأمريكية والسعي لإنشاء نظام متعدد الأقطاب، ولكنّ طموح الصين الدولي يتخطى ذلك".
وتفسر الشوامرة تلك النقطة بإشارتها إلى خطاب شي لعام 2022، بأنه يسعى لبناء صين قادرة على "قيادة العالم"، ما يشير إلى أن الصين ترفض القيادة الأمريكية للنظام، لا طبيعية النظام، أي إنها تسعى لتُستبدل بواشنطن في نظام أحادي القطبية، لا إنشاء نظام متعدد تتشارك فيه القوى مع أطراف أخرى.
كذلك يؤكد الحمزة أن العلاقات التجارية الهائلة بين الصين والولايات المتحدة التي هي عشرة أضعاف حجم التبادل بين الصين وروسيا، تمثّل عقبة كبيرة، لأن الصين لها مصالح اقتصادية هائلة مع أمريكا والدول الغربية لا تريد أن تخسرها، ورغم التنافس في الصراع فإنهم لا يقطعون الصلات والتعاون حتى في بعض الأمور، أما وضع روسيا فمختلف، إذ هي في حصار كامل من الدول الغربية والولايات المتحدة.