لا يمكن بأي حال من الأحوال فهم طبيعة المآلات دونما العودة للقصة من بدايتها، أي ما يحلو لكثيرين تسميته التاريخ الفعلي للنكبة، وأقصد بذلك نشأة المشروع الصهيوني، الذي أعلن منذ طالعه فلسطين وطناً بديلاً لليهود، فبالعودة إلى الوقائع، تحديداً إلى أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن الشعب اليهودي عنصراً مرحَّباً به داخل النسيج الاجتماعي الأوروبي، وهو ما مهَّد لنشأة الحركة الصهيونية التي عرّفها مؤسسها هرتزل بـ"حركة الشعب اليهودي في طريقه إلى فلسطين".
والصهيونية تُعرَّف أيضاً كـ"حركة سياسية تهدف إلى توحيد اليهود في الشتات وإسكانهم في فلسطين"، كما تقوم على ثلاثة عناصر مركَّبة: السياسة اللاهوتية، والاستعمار الاستيطاني، والازدواج القومي، إضافةً إلى مفاهيم من قبيل وحدة العرق اليهودي وتفوُّقه الحضاري على بقية الأعراق، وهي نظرية مشابهة لنظرية التوسُّع الغربية القائمة على ركيزة تفوُّق العرق الأبيض التي استباحت من خلالها أوروبا العالم وفرضت وصايتها وسيطرتها عليه.
تقوم الصهيونية على فكرة قائمة على ادّعاءات تاريخية ودينية مفادها أن أرض اليهود هي الأرض التي سار عليها إبراهيم عليه السلام من العراق إلى فلسطين ثم إلى مصر، ويطلقون عليه الخروج الأول، فرسموا بذلك حدوداً لدولتهم تمتدّ من الفرات إلى النيل وتبدأ من فلسطين، استطاعت الحركة الصهيونية تحويل هذه الفكرة إلى آيديولوجيا تحشد من خلالها اليهود حول العالم إلى الجنة الموعودة.
من جانب آخر، تَوافَق المشروع الصهيوني مع المطامع البريطانية، إذ تشير الدراسات التاريخية إلى أن السفارة البريطانية التي افتُتحت في القدس سنة 1838، كانت مركزاً للدفاع عن مصالح اليهود، كما أن المشروع الصهيوني حينما تَأسَّس كان يخدم المصالح البريطانية الاستعمارية التنافسية على المنطقة، المتمثلة في تأمين الجناح الشرقي لقناة السويس التي أصبحت شريان بريطانيا الحيوي، خصوصاً إلى الهند.
إن افتعال دولة يهودية في فلسطين، تزامن في الوقت نفسه مع ضعف للدولة العثمانية التي استُنزفت قدراتها خلال الحرب العالمية الأولى، فانتُزعت فلسطين منها سنة 1917 وأُلحِقَت بالانتداب البريطاني بناءً على اتفاقية سايكس بيكو، مما مهّد جليّاً الطريق أمام المخطَّط صوب التحقق من خلال عهد بلفور في السنة نفسها، "وعد من لا يملك لمن لا يستحق".
لم تكُن أوروبا وحدها الداعم لإنشاء دولة يهودية في فلسطين في بداياتها، بل كذلك الاتحاد السوفيتي، إذ اعتبر ستالين أن الصهيونية ذات اتجاه اشتراكي وتنحدر من أوروبا الوسطى. غير أن ذلك الموقف تَبدَّد منذ أواسط الخمسينيات في القرن العشرين وتَحوَّل إلى مساندة الحركات القومية العربية، التي كان يرى فيها عاملاً مزعزعاً للسيطرة الفرنسية-البريطانية.
ومع بداية الحرب العالمية الثانية تنامت هجرة اليهود إلى فلسطين، إذ بلغ عددهم 80 ألفاً، الأمر الذي أدَّى إلى اندلاع أحداث عنف كتعبير عن غضب ورفض لسياسة التوطين، بلغت ذروتها في أحداث الثورة الكبرى 1936-1939 المتفجرة على يد مجموعة قسامية بقيادة الشيخ فرحان السعدي، التي قامت بقتل اثنين من اليهود، تتابعت على أثرها الأحداث، إذ خاض الفلسطينيون إضرابا طويلاً، لمنع بيع الأراضي لليهود، ووقف سياسة التوطين.
وعلى أثر هذه المجريات أعطت بريطانيا الضوء الأخضر لتشكيل "لجنة بيل" لتتباحث حلّاً للأزمة، قدمت اللجنة جملة توصيات لعل أبرزها التوصية بإنهاء الانتداب البريطاني وتقسيم فلسطين بين العرب واليهود. لم تلقَ هذه المقترحات ترحيباً من قبل الفلسطينيين الذي رفضوا أي شكل من أشكال التقسيم، في حين طالب اليهود بمزيد من الضمانات.
أحالت بريطانيا المسألة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، بداية للانسحاب الكامل، وبتاريخ 1947 أصدرت الجمعية العامة القرار رقم 181 المتعلق بتقسيم فلسطين إلى دولتين، وعلى أثر هذا القرار اندلعت حرب 1948.
لم تكن حرباً متكافئة، لا من ناحية العدد ولا من ناحية العتاد، فحسب مركز الزيتونة للدراسات الفلسطينية شكّل الفلسطينيون جيش الجهاد المقدس بقيادة عبد القادر الحسيني، كما شكلت الجامعة العربية جيش الإنقاذ المؤلَّف من المتطوعين من البلدان العربية، في حين بلغ عدد المقاتلين اليهود 70 ألفاً من الهاغاناه، و خمسة آلاف من الأرغون، وألفين شترين وغيرها، وهو ما يمثّل ثلاثة أضعاف الجيوش العربية السبعة مجتمعة.
كما مالت كفة الجاهزية أيضاً لصالح اليهود؛ يذكر المؤرخ ألبرت حوراني في كتابه "تاريخ الشعوب العربية"، أن اليهود كانوا موحَّدين في مؤسسات مشتركة، كما تلقوا تدريبات وخبرات في القوات البريطانية خلال الحربين العالميتين، وعلى النقيض من ذلك كان العرب أقلّ قدرة وأكثر انقساماً، بخاصة بعد نفي قادتهم على أثر الثورة الكبرى.
بدأت أحداث الحرب حينما دخلت القوات العربية إلى المناطق التي يسكنها أكثرية عربية، إذ كانت تلك الخطوة بادرة لاندلاع النزاع بين الجيش الإسرائيلي والجيوش العربية، وفي أربع حملات تخللها وقف إطلاق نار استطاعت إسرائيل أن تحتلّ القسم الأعظم من البلاد.
مع نهاية الحرب تَمكَّن الكيان الغاصب من الاستيلاء على 88% من الأراضي الفلسطينية، كما دمروا 478 قرية من أصل 585، وارتكبوا 34 مجزرة أشهرها مذبحة دير ياسين في 9-4-1948، كما تَحوَّل أكثر من 750.000 مواطن فلسطيني إلى لاجئين، فيما قُتل أكثر من 13.000 آخرين على أيدي القوات الإسرائيلية. وبذلك تحولت الأغلبية إلى أقلية، والعكس بالعكس.
"لقد مزقت حرب 1948 النسيج الاجتماعي والاقتصادي للشعب الفلسطيني الذي وجد نفسه مشرَّداً بفعل سياسة التطهير والتهجير"، يقول موشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلي سابقًا، "ليست في هذه البلاد قرية يهودية واحدة لم يتم بنائها فوق موقع لقرية عربية. كما رفضت حكومة بن غوريون -الصهيوني المتحمس- السماح بعودة أي عدد من اللاجئين العرب إلى ديارهم، وبفعل تلك الانتصارات العسكرية أعلنت إسرائيل قيام دولتها.
كان لحرب 1948 نتائج وخيمة على الإقليم، إذ أدّت هزيمة الجيوش العربية إلى سقوط حكومتَي سوريا 1949 ومصر 1952 وسيطرة العسكر على السلطة، كما كان التوتر سيد الموقف في المنطقة؛ بلغ ذروته باندلاع حرب 1967 التي أدّت إلى نكسة عربية أضيفت إلى قائمة الهزائم، فالجيش الإسرائيلي الذي بالغت أمريكا في تسليحه مقابل أسلحة سوفييتية للجيوش العربية (السوري والمصري) احتلّ في ثلاثة أيام سيناء وكل منطقة السويس، إضافة إلى المرتفعات الجبلية في الجولان السوري، وبذلك استكملت إسرائيل هيمنتها على الأراضي الفلسطينية.
دخلت القضية الفلسطينية على أثر هذه الأحداث في مسارات متباينة بين المقاومة والعمليات الفدائية تارة ومفاوضات السلام تارة أخرى، في سبيل إقامة دولة منشودة، ومما لا شك فيه أن المنطقة لم تعُد كما كانت قبل افتعال دولة فُرضت بالقوة وبالأمر الواقع.
إن ما تبقى من فلسطين لا يخوض فقط حرباً مشروعة عن وجوده الطبيعي في أرضه، بل يخوض كذلك حرباً بالنيابة عن أمة بأسرها، ويدافع ضد مخطَّط يهدف إلى تفتيت المنطقة وإغراقها في الفوضى من خلال غرس كيان هجين، وعلى الرغم من قداسة الدور المنوطة به، جوبهت القضية ومساعيها في التحرُّر، لا فقط بالغياب السلبي، بل وبالتطبيع والتآمر من إخوة الدين والعرق.