بدأت التداعيات الاقتصادية تظهر بوضوح على إسرائيل إثر الحرب غير المسبوقة التي تشنها على قطاع غزة منذ نحو 5 أشهُر، إذ خفضت وكالة موديز للتصنيف الائتماني في 9 فبراير/شباط الجاري تصنيف إسرائيل من A1 إلى A2، وذلك لأول مرة في تاريخها، مع تغيير النظرة المستقبلية من مستقرة إلى سلبية.
وقد يؤدي تغيير النظرة المستقبلية إلى خفض آخر لتصنيف إسرائيل الائتماني في حال تراجع الأوضاع الأمنية والجيوسياسية والاقتصادية بسبب الحرب، أو اندلاع أخرى على الجبهة الشمالية مع حزب الله اللبناني، وفق صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية.
وذكرت وكالة بلومبيرغ حول تداعيات قرار موديز أن "إسرائيل تعيش حالة غضب"، ونقلت عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إنّ القلق يتمثل في احتمالية تأثر العلاقة بين إسرائيل والمستثمرين، مع إقبالها على الاقتراض شبه القياسي لتمويل حرب غزة.
امتعاض إسرائيلي كبير
وسارع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الرد على خطوة موديز بتأكيده أن "الاقتصاد الإسرائيلي متين، وخفض التصنيف ليس له علاقة بالاقتصاد، بل يرجع بالكامل إلى حقيقة أننا في حالة حرب".
وادعى وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش أن خفض التصنيف الائتماني لم يستند إلى منطق اقتصادي سليم ويمثل "بياناً متشائماً"، مؤكداً أن "الاقتصاد الإسرائيلي قوي بكل المقاييس، وهو قادر على مواصلة تحمل المجهود الحربي كاملاً، سواء على الجبهة الخارجية أو الداخلية حتى تحقيق النصر".
ولم تستفِق إسرائيل من تخفيض تصنيفها الائتماني حتى وجدت خمسة من أكبر بنوكها نفسها تحت مقصلة تخفيض موديز بدرجة واحدة من A2 إلى A3، وهي بنوك: هبوعليم، ولئومي، ومزراحي تفاحوت، وديسكونت، والدولية.
لكن محافظ بنك إسرائيل المركزي بدا أكثر واقعية، إذ دعا حكومة نتنياهو والكنيست إلى معالجة القضايا الاقتصادية التي أثيرت في تقرير موديز من أجل تعزيز ثقة الأسواق وشركات التصنيف بالاقتصاد الإسرائيلي، مبدياً ثقة بالتعافي من تبعات حرب غزة.
رعب ومخاوف
ويوضح خبير الاقتصاد السياسي الدكتور عبد النبي عبد المطلب أن قرار موديز يعني تراجع قدرة الاقتصاد الإسرائيلي على الوفاء بالتزاماته الحالية والمستقبلية، ما أزعج الساسة الإسرائيليين وكل رجال الأعمال الذين يتعاملون مع إسرائيل.
ويؤكد عبد المطلب في حديثه مع TRT عربي أن هذا التصنيف في هذا الوقت يشير إلى أن استمرار حرب غزة ستؤثر سلباً وبشكل كبير في اقتصاد إسرائيل، وقد لا يكون جاذباً للاستثمارات أو التوسعات التي كان يعد مواطنيه بها.
ويضيف أن التصنيف أثار الرعب في قلوب شركاء تجاريين لإسرائيل، خصوصاً بعد المخاوف من تهديد الملاحة بالبحر الأحمر وزيادة تكاليف الشحنات، مشيراً إلى احتمالية وجود بعض التقارير لدى موديز حول عدم قدرة واشنطن على تقديم مساعدات لتل أبيب في ظل الظروف الحالية.
وحول سبب الامتعاض الإسرائيلي يبيّن الخبير الاقتصادي أن قرار التخفيض هذا يتبعه عادة تخفيضات أخرى، بداية بتخفيض الاقتصاد ثم تخفيض القدرة الائتمانية ثم المصارف.
ويلفت إلى أن التصنيف الجديد يجعل رؤوس الأموال المتجهة إلى إسرائيل "تتريث قليلاً وتعيد النظر قبل زيادة استثمارها أو التوجه إلى هناك"، كما أنه سيقلل قدرة الأسهم والسندات لبنوك وشركات إسرائيلية على المنافسة في الأسواق العالمية، وسيجعل التعامل معها حذراً، وسيجبر هذه البنوك على رفع الحوافز لعملائها للمحافظة عليهم.
أسباب التخفيض
ويعتقد عبد المطلب أن جزءاً كبيراً من تخفيض تصنيف إسرائيل ينحصر في مخاوف أمد الحرب في إسرائيل، لأنها قائمة على الصناعة والزراعة، وعدد كبير من مواطنيها يخدمون باعتبارهم جنود احتياط، إذ جرى استدعاؤهم من المصانع والمزارع مما أدى إلى تراجع عجلة الإنتاج.
ويؤكد أن هناك مخاوف من توقف جزء من أهم مصادر الدخل بإسرائيل وهي صادرات الغاز إلى مصر، مشيراً إلى أن توتر علاقات القاهرة وتل أبيب سيصيب كل مشاريع وصناعات الغاز في إسرائيل بانهيار.
ويردف: "في الأسبوع الأول من الحرب كان هناك فرار لرؤوس أموال وتراجع الشيكل الإسرائيلي، وفقدت إسرائيل ما يقرب من 10% من احتياطي النقد الأجنبي لدى بنك إسرائيل، لكن المساعدات الأمريكية أعطت اقتصاد إسرائيل بعض الحيوية، وسط شكوك في استمرار ذلك".
ويعتقد عبد المطلب أن إسرائيل مقبلة على خفض ائتماني جديد ما دامت الحرب قائمة، وقربها من الحدود المصرية قد يقوي المعطيات لدى وكالات التصنيف العالمية في تخفيض تصنيف الاقتصاد الإسرائيلي أو عدد من البنوك العاملة بإسرائيل.
دلالات وتداعيات
بدوره يؤكد الخبير المالي والاقتصادي الدكتور ثابت أبو الروس أن تخفيض الائتمان المصرفي والمالي والبنكي لأول مرة بتاريخ إسرائيل من قبل المؤسسات الدولية يحمل دلالات داخلية وخارجية.
ويوضح أبو الروس في حديثه مع TRT عربي أن أي مستثمر يستثمر لأي دولة يبحث عن التصنيف الائتماني لها، وانخفاضه سيدفعه إلى العزوف عن الاستثمار فيها، خصوصاً إسرائيل التي تراهن دائماً على أنها دولة ذات ائتمان اقتصادي.
ويتابع: "عندما تستدين إسرائيل أو تقترض من دول العالم فإنها ستجد صعوبة كبيرة في ارتفاع سعر الفائدة لأنها دولة ليست بالأمان الاقتصادي، إلى جانب صعوبة حصولها على التمويلات رغم أنها استدانت -بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023- من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا بقرض مجمع قيمته 7 مليارات دولار".
أما بشأن تخفيض تصنيف 5 بنوك في إسرائيل فيرى الخبير المالي أنه مؤشر خطير لأن هذه البنوك تعيد استثماراتها أو تستدين من بنوك دولية، "ولأنها تقع في دولة ذات تصنيف متراجع تلقائياً ستكون أسعار الفائدة عليها مرتفعة، وبالتالي سيكبدها خسائر كبيرة"، فضلاً عن الصورة المشوهة للاقتصاد الإسرائيلي الذي يعتمد على العلاقات الداخلية والخارجية.
ويستدلّ أبو الروس بما قاله الإعلام الإسرائيلي من أن "7 أكتوبر/تشرين الأول بداية حرب عسكرية، و9 فبراير/شباط بداية حرب اقتصادية"، مؤكداً أن هذا الكلام ليس تسويقاً إعلامياً وإنما حقيقة، وستكشف الأشهُر المقبلة بعد انتهاء الحرب تراجعاً كبيراً للاقتصاد الإسرائيلي.
ويلفت إلى أن قرار موديز لم يكن وليد اللحظة، وإنما مؤجل منذ عام على وقع الإصلاحات القضائية المثيرة للجدل التي تبنتها حكومة نتنياهو اليمينية، ومع العدوان على غزة أصبح لا مفرّ للوكالة الدولية من تخفيض هذا التصنيف.
ويبيّن أبو الروس أن قرار موديز يعطل ويعمق الفجوة في الموازنة الإسرائيلية لفترة لا تقل عن أشهُر إلى سنوات، إذ ستكون هناك موازنات ضمن العجز في الموازنة تصل إلى مليارات الشواكل، وهذا ما أفرزته موازنة 2024 إذ تتحدث عن 80 مليار شيكل.
وحول تداعيات تراجع تصنيف بعض البنوك الإسرائيلية داخلياً وخارجياً، يرى الخبير الاقتصادي أنه سيكون في الفوائد المترتبة على من يأخذ قروضاً من تلك البنوك ارتفاع كبير، كما ستمتنع البنوك الدولية عن استقبال الحوالات الواردة من البنوك الإسرائيلية، ويمكن أن تمتنع عن إرسال حوالات أو منع قروض لتلك البنوك، وصولاً إلى إمكانية وجود قيود على العلاقة المالية بينهما.
ويرجح أبو الروس أن تكون إسرائيل مقبلة على انخفاضات إضافية من قبل موديز، إذ تدرس وكالتا التصنيف الائتماني الأخريان، ستاندرد آند بورز وفيتش، اتخاذ خطوة مشابهة.
خسائر اقتصادية
وبلغة الأرقام، قدرت تقارير التكلفة المتوقعة للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بـ56 مليار دولار، تتضمن ميزانية جيش الاحتلال والتعويضات، كما تبلغ خسائر قطاع البناء 644 مليون دولار أسبوعياً، ويصل حجم النقص في قطاع البناء إلى 140 ألف عامل.
وفي هذا السياق أظهر مسح صادر عن وزارة المالية الإسرائيلية، منتصف هذا الشهر، أن مبيعات العقارات المسجلة في 2023 تعتبر الأسوأ منذ 30 عاماً، وأن الربع الأخير للعام نفسه كان الأسوأ لمبيعات المساكن خلال الأعوام الـ22 الماضية.
وتراجع دخل الإسرائيليين منذ بداية الحرب بنسبة 20%، فيما تراجعت الاستثمارات في قطاع التكنولوجيا بنسبة 15%، وتشير التقديرات إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي قد ينكمش 1.5% إذا استمرت الحرب لنهاية العام.
وبلغ عجز الموازنة الإسرائيلية 18.5 مليار دولار لعام 2023، وتراجعت عائدات الضرائب في العام ذاته بنسبة 8.4%، في حين زادت الضريبة على أرباح البنوك 26% في 2024.
يذكر أن وكالة بلومبيرغ نقلت عن عدد من المسؤولين في وزارة المالية الإسرائيلية أنه سيتعين على إسرائيل بيع كميات شبه قياسية من السندات هذا العام لتمويل الحرب.
وحسب الوكالة، تتصور الحكومة زيادة الديون في عام 2024 بنسبة أكثر من أي عام آخر باستثناء 2020 لاحتواء تداعيات جائحة كورونا، وسط تقديرات أن يصل إجمالي إصدار الديون إلى نحو 210 مليارات شيكل (58 مليار دولار)، بزيادة تقارب الثلث عن العام الماضي.