وقالت المحكمة التي مقرها في لاهاي إنه يتعين على إسرائيل "أن توقف فوراً هجومها العسكري وأي أعمال أخرى في محافظة رفح قد تفرض على السكان الفلسطينيين في غزة ظروفاً معيشية يمكن أن تؤدي إلى تدميرهم جسدياً كمجموعة أو على نحو جزئي".
كما أصدرت المحكمة تعليمات لإسرائيل بالإبقاء على معبر رفح بين مصر وغزة مفتوحاً، والذي سيطرت عليه إسرائيل أوائل شهر مايو/أيار الحالي.
ويرى مراقبون أن تجاهل إسرائيل الفوري لأوامر محكمة العدل الدولية، يعد تصميماً على استكمال الحرب رغم زيادة الضغط والعزلة الدولية، وهو ما يثير تساؤلات حول تأثير القرار على مسار الحرب وارتداداته على إسرائيل وحول أسباب عدم طلب المحكمة الوقف التام لإطلاق النار في جميع مناطق القطاع.
ومحكمة العدل الدولية هي أعلى هيئة قضائية تابعة للأمم المتحدة، والتي تعتبر أوامرها ملزمة قانوناً ولكنها تفتقر إلى آليات التنفيذ المباشر.
لماذا لم تطلب المحكمة وقفاً كاملاً لإطلاق النار؟
ويقول الباحث الفلسطيني والكاتب في الشأن القانوني، وائل المصري، إن هذا الأمر الثالث لمحكمة العدل الدولية بعد الأمرين في 26 يناير/كانون الثاني و 28 مارس/آذار، وكلاهما لم يطلب من إسرائيل وقف عملياتها العسكرية، بل إن المحكمة رفضت طلباً من جنوب إفريقيا بإصدار أوامر بتدابير احترازية في فبراير/شباط الماضي بناء على التهديدات حينها باجتياح معبر رفح.
ويوضح المصري لـTRT عربي أن جنوب إفريقيا في المذكرة المكتوبة والمقدَّمة للمحكمة في 10 مايو/أيار لم تطلب وقف العملية العسكرية، وإنما حددت رفح بشكل خاص، لكن في المرافعة الشفوية يوم 16 مايو/أيار طلبت انسحاب جيش الاحتلال من كامل قطاع غزة.
ويشرح المصري أن للمحكمة الحق بإصدار أوامر بكل أو بعض الطلبات المقدمة لها فيما يتعلق بالتدابير الاحترازية، ولها الحق أيضاً في إصدار أوامر لم يطلبها أي من الأطراف، وهو ما جرى إذ أصدرت المحكمة قراراً يستجيب للطلبات المقدمة من جنوب إفريقيا في المذكرة المكتوبة بشأن رفح وتسهيل دخول المسؤولين الدوليين وغيرهم وتقديم تقرير للمحكمة بهذا الخصوص، إضافة إلى أمر آخر لم تطلبه جنوب إفريقيا ومتعلق بإبقاء معبر رفح مفتوحاً لاستمرار دخول المساعدات، وهذا الأمر ينسجم مع الأمر الصادر في مارس/آذار الماضي ويلزم فيه إسرائيل إدخال المساعدات الإغاثية والخدمات الأساسية.
ما أهمية قرار المحكمة على مسار الحرب؟
وعلى صعيد أهمية قرار المحكمة يقول مدير عام مؤسسة "الحق" وعضو الفريق الاستشاري لجنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، شعوان جبارين، لـTRT عربي إن "هذا الأمر يعتمد على مدى التنفيذ والتطبيق واحترام مجلس الأمن الدولي لقرار محكمة العدل الدولية على اعتبار أن مجلس الأمن هو الجهة التي يجب عليها أن تطبق وتنفذ الأوامر في حال عدم تنفيذ قرارات المحكمة الدولية".
وحسب المادة 94 من الفصل الرابع عشر (محكمة العدل الدولية) لميثاق الأمم المتحدة فإنه "إذا امتنع أحد المتقاضين في قضية ما عن تنفيذ ما يفرضه عليه حكم تصدره المحكمة، فللطرف الآخر أن يلجأ إلى مجلس الأمن، ولهذا المجلس، إذا رأى ضرورة لذلك أن يقدم توصياته أو يصدر قراراً بالتدابير التي يجب اتخاذها لتنفيذ هذا الحكم".
وعقب قرار المحكمة، صرّح الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل إنه سيتعين على الدول الأوروبية الاختيار بين دعمها للمؤسسات الدولية القائمة على سيادة القانون وبين دعمها لإسرائيل.
واعترف بوريل بأن عملية صنع القرار في الاتحاد الأوروبي عندما يتعلق الأمر برده على الحرب في غزة كانت "بطيئة للغاية" بسبب الخلافات العميقة بين موقف عواصم الاتحاد الأوروبي بشأن الصراع.
ويؤكد جبارين أن قرار محكمة العدل الدولية مؤثر ولا تستطيع أي دولة أن تنتقد أو توجه أصابع الاتهام إلى المحكمة كونها أعلى هيئة قضائية دولية.
ويلفت إلى أن "إسرائيل لم تلتزم القرار وظهرت بأنها تخالفه، إذ كثفت من قصفها على رفح، وهذا الأمر سيضعها أمام سؤال كبير على مستوى العالم"، حسب تعبيره.
ومشيراً إلى أن "الحلقة تضيق على عنق إسرائيل في هذا الموضوع ويظهر تجاوزها للقانون الدولي وبالتالي هناك عزلة تزداد في هذا الجانب".
وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أكد أن قرار محكمة العدل الدولية ملزم، وأنه يعتقد أن الأطراف سوف تلتزم القرار. جاء ذلك حسب ما نقله المتحدث باسم الأمين العام ستيفان دوجاريك، في مؤتمر صحفي وقال إن غوتيريش سيحيل قرارات محكمة العدل الدولية حول غزة إلى مجلس الأمن الدولي.
مأزق الولايات المتحدة في مجلس الأمن
منذ بداية الحرب استخدمت الولايات المتحدة سلطة "النقض" (الفيتو) في العديد من المرات لمنع صدور قرارات من مجلس الأمن تطالب بوقف إطلاق النار في غزة.
ويرى الباحث الفلسطيني والكاتب في الشأن القانوني وائل المصري أن إمكانية اللجوء إلى مجلس الأمن تبقى خياراً متاحاً لجنوب إفريقيا، لكن مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا الخيار سيصطدم بالفيتو (حق النقض) الأمريكي.
ويقول: "إسرائيل وكذلك أمريكا في هذه الحالة سيضعان نفسيهما في مأزق قانوني وأخلاقي كبير كما أنهما سيقفان بمفردهما في مواجهة إرادة دولية تطلب وقف الحرب".
ويتابع: "ظهرت نتائج الموقف الشعبي الدولي بشأن الحرب منذ الأسابيع الأولى، لكن مع رفض إسرائيل التزام قرار المحكمة اليوم فإنه سيأخذ شكلاً أكثر اتساعاً من خلال إمكانية لجوء دول عديدة حول العالم لفرض ما يعرف بالقانون الدولي بـ(التدابير المضادة) والتي تشمل عقوبات مختلفة، ومن بينها مثلاً سحب السفراء أو قطع العلاقات الدبلوماسية أو وقف تصدير السلاح إلى إسرائيل، ولجأت عدة دول إلى هذا الخيار خلال الفترة الماضية لكننا قد نشهد تصاعداً في هذا السلوك من قبل دول العالم الرافضة للحرب".
وفي السياق ذاته، أوردت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية أنه من المتوقع أن تدعم إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إسرائيل في مثل هذا الوضع، لكن من المرجح أن تلتزم معظم الحكومات الغربية قرار المحكمة، وقد يفرض بعضها عقوبات على إسرائيل إذا خالفت الأمر.
ورفضت إسرائيل أمس الجمعة قرار جنوب إفريقيا لها بارتكاب إبادة جماعية، مؤكدة أن عملياتها العسكرية في مدينة رفح "لا تهدد بتدمير السكان المدنيين الفلسطينيين".
كما وصف مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اتهامات جنوب إفريقيا بأنها "كاذبة ومشينة".
إسرائيل أمام محكمتين
وينضم حكم محكمة العدل إلى قرار المدعي العام كريم خان من المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي طلب إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، ما يزيد من العزلة السياسية التي تجد إسرائيل نفسها فيها.
ويجب التفريق بين محكمة العدل الدولية التي تنظر في انتهاك إسرائيل كحكومة ونظام لالتزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، وبين المحكمة الجنائية الدولية التي تعد محكمة للأفراد، وفي المحكمتين فإن موقف إسرائيل صعب، وفق الحقوقي وائل المصري.
ويوضح أنه بالنسبة إلى محكمة العدل الدولية فإن البت بالقضية قد يستغرق سنوات، وبالتالي من المبكر أن تستنتج المحكمة بشكل قطعي أن إسرائيل انتهكت اتفاقية الإبادة الجماعية، لكن إلى حين البت بالقرار ستبقى إسرائيل متهمة بذلك، كما أن عدم التزامها الأوامر التي تصدرها المحكمة سيؤخذ في عين الاعتبار في قناعات القضاة الذين ينظرون الدعوى.
أما بالنسبة إلى المحكمة الجنائية الدولية، فإن المدعي العام للمحكمة حدد عدداً من الأفعال التي تندرج ضمن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها كل من نتنياهو ووزير دفاعه غالانت.
وحسب المصري، فإنه "ما زال من المبكر الحديث عن أي إدانة كون أن المدعي العام في محكمة الجنايات الدولية طلب من الدائرة التمهيدية في المحكمة إصدار مذكرات قبض ضد الرجلين، وفي حال قبلت المحكمة طلب المدعي العام فإن المحاكمة لا تبدأ إلا بعد امتثالهما إلى المحكمة، إذ لا توجد محاكمة غيابية، وبالتالي نحن أمام مسار طويل وممتد لكنه بشكل شبه مؤكد سيدين إسرائيل".