مع احتدام الحرب في أوكرانيا، تواصل الولايات المتحدة لعب دور مركزي في الحفاظ على إمدادات كييف بالأسلحة لتعزيز قدراتها القتالية ضد القوات الروسية، لكن من ناحية أخرى ترسل واشنطن أيضاً أسلحة إلى موقع بعيد هو اليونان التي تُعَدّ حليفاً لها في الناتو، وأثارت ضد تركيا، التي تُعتبر حليفاً بالناتو أيضاً، عديداً من المشكلات حول قضايا قديمة وأخرى جديدة.
بينما تؤكد الولايات المتحدة أن الأسلحة التي تقدمها لأوكرانيا وحلفاء أوروبيين آخرين تُنقَل عبر اليونان لاحتواء أي تهديد أمني آخر من روسيا، فإن تركيا لا توافق على هذه الحجة، خصوصاً أن واشنطن، في الأشهر العديدة الماضية، أنشأت 10 قواعد عسكرية في الأراضي اليونانية.
وردّاً على هذه التطورات وجّه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انتقادات إلى الولايات المتحدة، متسائلاً عن الهدف الذي أقيمت من أجله هذه القواعد العسكرية، وضد من هي. بطبيعة الحال الجواب الذي يعطونه هو أنها "ضدّ روسيا"، ولكنه "لا يتماشى معنا، ولا نتحمل أي إهانة" وفق تعبير الرئيس.
وقد أدَّى توسيع القواعد العسكرية الأمريكية وزيادة إمدادات ميناء أليكساندروبولي بالأسلحة إلى تشكيك عديد من المحللين الإقليميين في النية الحقيقية لواشنطن.
في هذا الصدد قال أولاس بيهليفان، المحلل العسكري التركي والضابط السابق في الجيش، لـTRT World، إنه بينما يميل عديد من المحللين الغربيين إلى قبول موقف واشنطن بأن توسيع وجودها في اليونان يتم لمواجهة التهديد الروسي المحتمَل وتعزيز تضامن الناتو، فإنه "يخدم بذات الوقت وبطريقة غير مباشر السياسة الخارجية اليونانية التي تتعارض مع تركيا في بحر إيجة".
على سبيل المثال، عسكرة واشنطن جزيرة ألكساندروبولي في بحر إيجة، التي وصفتها صحيفة نيويورك تايمز بأنها "ميناء يوناني هادئ"، لفتت انتباه أنقرة بشكل خاص.
تنقل الولايات المتحدة كميات كبيرة من المعدات العسكرية التي تستخدمها القوات الأمريكية في شرق وشمال أوروبا عبر ميناء ألكساندروبولي، الذي يقع على بعد 45 كيلومتراً فقط غرب الحدود التركية-اليونانية. بالإضافة إلى هذه القاعدة الكبرى، فمن المعروف أن الوجود العسكري الأمريكي منتشر في جميع أنحاء الأراضي اليونانية مع أكثر من 10 مواقع أخرى.
وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز، تلقّت جزيرة ألكساندروبولي إمدادت عسكرية من الولايات المتحدة في عام 2021 أكثر بـ14 ضعفاً مما كانت عليه في السنوات السابقة، مما يمثّل زيادة كبيرة لا يمكن تفسيرها فقط من خلال حرب أوكرانيا، لأن الهجوم الروسي بدأ في فبراير/شباط. بحلول يوليو/تموز 2022 وصل عدد الأسلحة الأمريكية التي وصلت إلى هذه المدينة التي كانت هادئة ذات يوم إلى مستويات عام 2021.
تطور آخر مثير للقلق في نظر أنقرة هو موافقة الولايات المتحدة على استحواذ اليونان على 20 طائرة مقاتلة من طراز F-35، فيما تردَّدَت واشنطن لسنوات في بيع هذا الطراز من الطائرات لتركيا، ممَّا أثار غضب أنقرة، وفقاً لبيليفان الذي أضاف أن في منح المعدات العسكرية لليونان زيادة ملحوظة، بلغت قيمتها أكثر من 10.5 مليار دولار عام 2021.
ضده من؟
كما رفعت الولايات المتحدة مؤخراً حظراً على الأسلحة فرضته عقوداً على إدارة القبارصة اليونانيين، وهي دولة مدعومة من اليونان داخل الجزيرة المقسمة. وتهدّد هذه الخطوة مباشَرةً الأمن القومي لجمهورية شمال قبرص التركية، التي تدعمها أنقرة. علاوة على ذلك، ورد أن الولايات المتحدة أرسلت أسلحة إلى القبارصة اليونانيين، مما أغضب تركيا وأدَّى إلى التقارب بين موسكو وأنقرة بشأن النزاع القبرصي. في ضوء سلسلة من التطورات التي تتعارض مباشَرةً مع مصالح السياسة الخارجية لأنقرة، يرى خبراء الأمن الإقليمي أن دور الولايات المتحدة "مثير للشك".
يقول إسماعيل بوزكورت، المحلل السياسي القبرصي التركي الذي يتمتع بخبرة واسعة في السياسة اليونانية والتركية، إنه "كجزء من اللعبة الجيوسياسية الأمريكية، يخزنون الأسلحة في اليونان، قائلين إنها جزء من التخطيط الدفاعي للغرب ردّاً على الهجوم الروسي في أوكرانيا". وأضاف في حديثه مع لـTRT World: "لكن من المشكوك فيه أن يكون حجم تدفُّق الأسلحة إلى اليونان ضدّ روسيا أو تركيا". نتيجة لذلك أعربت روسيا -التي حافظت تقليدياً على روابط قوية مع أثينا بسبب العلاقات المشتركة، مثل العقيدة المسيحية الأرثوذكسية المشتركة في البلدين- وتركيا عن رفضهما تَدفُّق الأسلحة الأمريكية إلى اليونان.
وأكّد بوزكورت أن "تسليح الولايات المتحدة كلّاً من اليونان والقبارصة اليونانيين تطوُّر سلبي للغاية" في ما يتعلق بالعلاقات التركية-الأمريكية والمعادلة السياسية الإقليمية المتوترة في شرق البحر المتوسط، حيث تتنافس الدول الساحلية لاستكشاف الغاز الطبيعي.
لكن ماثيو بريزا، الدبلوماسي الأمريكي الكبير السابق، لا يعتقد أن تسليح الولايات المتحدة لليونان إجراء ضد تركيا، وقال في تصريحاته لـTRT World: "لا أعتقد أن الولايات المتحدة ترسل أسلحة ثقيلة إلى اليونان ردّاً على تركيا بأي شكل".
كما يختلف بريزا مع التأكيدات الأخيرة بأن الولايات المتحدة تفكر في أن تستبدل بتركيا اليونان. يقول بريزا: "تقع أليكساندروبولي في منطقة استراتيجية للغاية عندما يتعلق الأمر بالتحالف بأكمله، لقربها من البحر الأبيض المتوسط وبعدها عن البحر الأسود".
"لكن هذا ينطبق بوضوح على تركيا أيضاً. في الواقع، يُعَدّ موقع تركيا الاستراتيجي أكثر أهمية من وجهة نظر واشنطن"، يضيف بريزا، مشيراً إلى موقع البلاد المركزي في جغرافيا أوراسيا، بالإضافة إلى مضايقها الحرجة وسواحلها، التي تمتدّ عبر كل من البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود.
لا حاجة إلى التفضيل بين حليفين للناتو. من وجهة نظر واشنطن، هذه ليست قضية تفضيل اليونان على تركيا، مؤكداً: "إنها قضية توسيع الناتو لردع العدوان الروسي أولاً وقبل كل شيء".
إنجرليك مقابل ألكسندروبولي
على صعيد متصل، يؤكّد بريزا أيضاً أنه جرت "مناقشات" حول التفكير في بديل لقاعدة إنجرليك الجوية التركية، وهو موقع مهمّ لحلف شمال الأطلسي في دوائر الأمن القومي والجيش الأمريكي لفترة طويلة، "بدأت جدّيّاً في أوائل عام 2003 عندما لم يوافق البرلمان التركي على طلب الولايات المتحدة غزو العراق عبر تركيا".
على الرغم من هذه المناقشات الجارية، لا يعتقد بريزا أن الجيش الأمريكي يريد مغادرة إنجرليك، لأنه "يُعتبر راضياً جدّاً بوصوله" إلى القاعدة.
لكنّ في الكونغرس الأمريكي كثيراً من أعضاء مجتمعات الشتات المختلفة، بما في ذلك الأمريكيون-اليونانيون، يدفعون قدماً بفكرة أن الولايات المتحدة يجب أن تترك إنجرليك، وفقاً لبريزا. يقول: "أنا شخصياً لا آخذ الأمر على محمل الجِدّ".
مع ذلك يرى محمد أمين كوج، الخبير العسكري التركي، أن جهود الشتات اليوناني المناهضة لتركيا تثير القلق. وقال لـTRT World: "العلاقات السياسية والعسكرية الثنائية الأخيرة بين الولايات المتحدة واليونان، التي عُزّزَت بفضل الضغط القوي للوبي اليوناني، أدّت إلى دعم التكهنات حول سعي الولايات المتحدة لإيجاد بديل لقاعدة إنجرليك الجوية".
توجد إشارات جدية على أن واشنطن تهدف إلى تحويل ألكسندروبولي إلى "مركز عمليات عسكرية ديناميكي"، مما يشير إلى نية الولايات المتحدة المتعلقة بالميناء اليوناني. قال مسؤول أمريكي لصحيفة نيويورك تايمز: "لم يحدث شيء مثل هذا من قبل". في الشهر الماضي على سبيل المثال، زار الميناءَ أيضاً روبرت مينينديز، عضو مجلس الشيوخ الأمريكي صاحب السجل الإشكالي حول تركيا.
يوافق بريزا على أن الغضب المتزايد في تركيا تجاه عسكرة الولايات المتحدة لليونان يُظهِر أن حكومة الولايات المتحدة "لا تؤدّي عملاً جيداً بما فيه الكفاية" في إبلاغ أنقرة نياتها أو تخطيطها، ولا عن مدى توافق تركيا واليونان مع التخطيط الاستراتيجي لحلف الناتو في المنطقة.
وفق كوتش فإن السياسيين اليونانيين يرغبون في استثمار سوء التواصل بين أنقرة وواشنطن، فضلاً عن دعم اللوبيات اليونانية في تعكير صفو العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بهدف حشد الدعم من التحالف الغربي في ما يتعلّق بشرق البحر المتوسط وجزر إيجة.
تخاطر الإجراءات اليونانية بتداعيات خطيرة من طرف أنقرة، وفقاً لمسؤولين ومراقبين أتراك. في حين أن دور تركيا كوسيط موثوق بين أوكرانيا وروسيا أثار الثناء من جميع أنحاء العالم، فقد سلطت أنقرة مراراً وتكراراً الضوء على الحشد العسكري اليوناني أمام أنظار العالم.
فقد حذر أردوغان وبعض كبار المسؤولين الأتراك، بمن فيهم وزير الدفاع خلوصي أقار، اليونان مؤخراً من ارتكاب أعمال استفزازية، بعد أن قال وزير الدفاع اليوناني إنه يريد السباحة من جزيرة تسيطر عليها اليونان إلى الساحل التركي.
قال أقار، في إشارة مجازية إلى كيف انتهى الأمر ببعض أعضاء الجيش اليوناني الغازي في بحر إيجة في نهاية حرب الاستقلال التركية في عام 1922: "إذا ذهبوا بهذه العقلية، فإن معرفة كيفية السباحة ستكون مفيدة".