تداولت وسائل إعلام عبرية بعض المقاطع المصورة مؤخراً تظهر اقتياد عشرات الفلسطينيين نحو أراضٍ فارغة في غزة للتحقيق معهم أو نقلهم إلى خارج القطاع.
معصوبي الأعين، مكبلي الأيدي، عراة، على أجسادهم آثار تعذيب واضحة، هذه كانت حال المعتقلين الذين ظهروا في الصور، تنقلهم الشاحنات العسكرية الإسرائيلية إلى وجهات غير معلومة، منذ بداية توغلها البري في قطاع غزة.
وذكرت صحيفة هآرتس العبرية في تقرير لها أن مئات الفلسطينيين الذين اعتُقلوا في غزة خلال الحرب الحالية مُحتجَزون منذ أسابيع في منشأة اعتقال في القاعدة العسكرية سدي تيمان قرب مدينة بئر السبع جنوب البلاد.
غوانتانامو جديد
شبّهت مؤسسات حقوقية من بينها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان قاعدة الاعتقال المذكورة الواقعة بين مدينتي بئر السبع وغزة جنوباً بمعتقل غوانتانامو الأمريكي الشهير، الذي تأسس في يناير/كانون الثاني 2002 في منطقة خليج غوانتانامو التي استأجرتها الولايات المتحدة لقواتها البحرية عام 1903 من كوبا.
ظل السجن مفتوحاً لاحتجاز "مشتبه بهم" اعتُقلوا في أفغانستان والعراق وأماكن أخرى واحتُجز فيه نحو 780 معتقلاً، معظمهم من دون تهمة أو محاكمة، ويُعرف بأن كثيرين مرّوا فيه بأهوال لا توصف.
وقال المرصد الأورومتوسطي في بيان له في 18 ديسمبر/كانون الأول إن المعسكر الإسرائيلي سدي تيمان تحول إلى غوانتنامو جديد يجري فيه احتجاز المعتقلين في ظروف قاسية جداً، داخل أماكن أشبه بأقفاص الدجاج في العراء ومن دون طعام أو شراب لفترة طويلة من الوقت.
وتتراوح الفئات العمرية للمعتقلين في المعسكر المذكور بين القُصّر وكبار السن، يُحقق معهم معصوبي الأعين، وأيديهم مكبلة معظم اليوم في مجمعات مسيجة، وخلال ساعات الليل تسلط الأضواء عليهم بقوة، بهدف إرهاقهم وتعذيبهم، وفق ما ورد في تقرير المرصد.
وحسب شهاداتٍ جمعها الأورومتوسطي لمعتقلين جرى الإفراج عنهم من المعسكر الإسرائيلي فإنهم تعرضوا لأنماط متعددة من التعذيب وسوء المعاملة وجرى منعهم من استخدام الهواتف، ولم يحظوا بفرصة لقاء محامين أو بزيارات من اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
ويقول مدير الشؤون القانونية والسياسات في منظمة سكاي لاين الدولية لحقوق الإنسان محمد عماد إن "ما أظهرته الصور والشهادات القليلة التي صدرت ممن أُطلق سراحهم تظهر فظاعة فاقت ما يُرتكب في غوانتانامو الأمريكي".
ويضيف عما لـTRT عربي أن الشهادات مرعبة ولم يجرِ توثيقها بشكل قانوني كامل، و"لكن بعضها تناقلته وسائل الإعلام العبرية".
وكشفت هآرتس أن ستة معتقلين فلسطينيين لقوا مصرعهم داخل معسكرات احتجاز الجيش، ووفق تقارير التشريح التي حصلت عليها الصحيفة فإن جثتين على الأقل كانتا مصابتين بكدمات، كما توجد في حالات أخرى أدلة على العنف قبل الوفاة، والإهمال الطبي.
وفي تصريحات لإندبندنت عربية قال رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين الفلسطينيين قدورة فارس إن "الأسرى مقيدون، سواء في سدي تيمان أو عاناتوت أو النقب أو عوفر، أعداد هؤلاء المعتقلين ليست معروفة، لكنهم مكبلون طوال الوقت ولا يتناولون وجبات منتظمة، يُضربون ويُعتدى عليهم، وتسلط عليهم الإنارة ليل نهار لحرمانهم من النوم"، مشبهاً المعتقلات الإسرائيلية بـ"معسكرات الاعتقال النازي وغوانتانامو".
ظروف قاسية
حاول الاحتلال في السنوات السابقة وتحديداً في 2013 و2014 أن يفرض على الأسرى اللباس البرتقالي عوضاً عن البُني المفروض عليهم، لكنهم رفضوا ذلك بشدة، وفق ما يقول الناشط الحقوقي الأسير المحرر فؤاد الخفش.
ويضيف الخفش لـTRT عربي أن الأسرى رفضوا محاولة الاحتلال تشبيههم بمعتقلي غوانتانامو ووصفهم بالإرهابيين ومعاملتهم بنفس الطريقة التي عُومل بها سجناء المعتقل الأمريكي، وأصروا على عدم ارتداء الزي.
ويشير مدير مركز أحرار لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطيني إلى أن أسرى قطاع غزة يجري التعامل معهم بتصنيف آخر تحت عنوان "مقاتل غير شرعي"، لافتاً إلى أن "من اختطفهم جيش الاحتلال مؤخراً يتعرضون لظروف قاسية، إذ لا يُسمح للمحامين بمعرفة أماكن وجودهم، وبالتالي لا معلومات عنهم".
ويرجح الخفش أن يكون هؤلاء المعتقلون موجودين في معتقلات سرية وفي أماكن خاصة بعيداً عن الأسرى الآخرين، مضيفاً أنهم "يُعذبون وتُنتزع الاعترافات منهم بالقوة، وهو أمر معروف عن الاحتلال".
وفي 16 ديسمبر/كانون الأول أعلن مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحد تلقي عديد من التقارير المقلقة من شمال غزة "عن عمليات احتجاز جماعية ومعاملة سيئة وإخفاء قسري طالت ربما آلاف الفلسطينيين"، بمن فيهم الأطفال.
ويوضح محمد عماد أن "إسرائيل تتعامل مع ملف معتقلي غزة مثل العصابات الصهيونية قديماً، فتختطفهم من بيوتهم وتضعهم في المعتقلات في البرد القارس من دون توفير أي من المتطلبات الدنيا، سواء طعام أو شراب أو خدمات علاجية، وتُعرضهم للتعذيب وإطلاق النار داخل المعسكرات، ما أدى إلى فقدان بعضهم لحياته".
ويلفت المسؤول في منظمة سكاي لاين الدولية لحقوق الإنسان إلى أن "إسرائيل لم تترك نهجها الأول في حرب العصابات تجاه الفلسطينيين منذ عام 1948 حتى اليوم، لكن الحرب الحالية جاءت إثباتاً واضحاً للمجتمع الدولي عن عنجهية الجيش تجاه الغزيين".
ويشدد عماد على أن اقتحام البيوت وإعدام الرجال والأطفال أمام النساء واختطافهم وتعذيبهم هو سلوك إجرامي قديم، لكن يوجد اليوم انتهاك أوسع وأكبر أمام المجتمع الدولي وبشكل علني وصريح.
ويبيّن أن ما يجري يستوجب الحماية وأن تتحرك المحكمة الجنائية الدولية ومجلس الأمن بشكل فوري، مضيفاً: "لم نشهد أي موقف مشرف إنساني وأخلاقي من قِبل المجتمع الدولي لحماية الفلسطينيين".
ويعتقد عماد أنه يفترض أن يكون هناك تطبيق لقواعد اتفاقية جنيف الثالثة في ما يخص التعامل مع أسرى الحرب، مثل المعسكرات الملائمة وتبليغ الأهالي، ووجود تهمة واضحة، وتقديم الخدمات الطبية وغيرها.
لكن ما تفعله إسرائيل لا يعتمد على أساس قانوني منذ الحرب على غزة في مخالفة لعديد من الاتفاقيات القانونية الدولية وأبرزها ميثاق روما الذي يشكل أساس المحكمة الجنائية الدولية، وفق تقدير عماد.
ويردف: "مارست قوات الاحتلال جرائم حرب وإبادة جماعية مسجلة وموثقة أمام العالم، لكن لا يزال الحراك الدولي بطيئاً وسلبياً".
وفي هذا الصدد يقول رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان رامي عبده إن "النظام الدولي انهار تماماً بعد جريمة الإبادة بحق غزة، وهو في مأزق أخلاقي كبير".
ويوضح عبده في حديثه مع TRT عربي أن النظم والآليات التي بناها المجتمع الدولي على مدار السنوات الماضية أضحت بلا معنى وقيمة أمام هذا الصلف الإسرائيلي، وخضعت كلها للإرادة السياسية التي لم تصمت فقط على العدوان بحق غزة ولكن تواطأت إلى حد كبير.
ويتابع القول: "بالتالي وجدنا وكالات دولية تتخلى عن مهامّها تتماهى مع الرغبات الإسرائيلية ميدانياً ومن حيث المساءلة أيضاً"، وفق عبده.
ويلفت إلى أن "مدعي عامّ المحكمة الجنائية كريم خان قد زار إسرائيل بعد الحرب، دون قطاع غزة، ما أعطى إشارات سلبية عن إمكانية محاسبة الاحتلال على جرائمه".
وتؤكد منظمة العفو الدولية أن إسرائيل "تمتلك سجلّاً مروعاً في الإفلات من العقاب على الانتهاكات التي ترتكبها قواتها، ما يؤكد الحاجة الملحة إلى إجراء تحقيق مستقل وفعال في جميع حالات الوفاة رهن الاحتجاز، وفي التقارير التي تفيد بتعرض فلسطينيين من غزة للإخفاء القسري والتعذيب وغيره من ضروب المعاملة السيئة".