بعد أيام قليلة من اختفاء الصحافي السعوديّ جمال خاشقجي، في أكتوبر من العام الماضي، خرج الكاتب السعوديّ تركي الحمد ليصرّح في معرض اتهامه لقطر بالوقوف وراء اختطاف وقتل خاشقجي، بأنه إذا ثبتَت على قطر هذه التهمة فإنَّ هذا ينفي عنها صفة الدولة، لأن الدولة لا تمارس أعمال العصابات، وما جرى مع جمال شغل عصابات مافيا لا عمل دول، فهل ينطبق هذا الوصف على دولة كالسعوديَّة؟
يشهد التاريخ بحروف سوداء، للسلطات السعوديَّة، بسجلٍّ حافلٍ من عمليات الاختطاف والقتل والتنكيل بالمعارضين والمفكرين والسياسيين المنتقدين لها، والمعارضين لسياسة أفراد الأسرة الحاكمة، ولو كان هؤلاء من الأمراء.
ثلاثة أمراء من العائلة المالكة عارضوا سياسة المملكة فتُركوا إلى مصير مجهول، بعضهم لا يُعلم -حتى الآن- إن كانوا موتى أو لا يزالون يقبعون في أحد سجون الحكومة السعوديَّة، ولم تقف سيادة الدول الغربية أو أيٍّ من قوانينها عائقاً لمنع اختطاف هؤلاء من مخابرات المملكة أو حمايتهم من مصائرهم المجهولة.
الأول كان الأمير سلطان بن تركي، الذي عُرف بانتقاداته الشديدة لسياسات الأسرة الحاكمة في السعوديَّة، زيارة قادته إلى حتفه، فحينما توجّه إلى زيارة لقصر عمه الملك فهد في ضواحي جنيف، ليلتقي الأمير عبد العزيز بن فهد على وجبة الإفطار، للتفاهم معه وحل مشكلاته مع النِّظام والعودة به إلى المملكة وحمايته، قام ملثمون بمهاجمته وحقنه بمادة منومة ثم خطفه ونقله إلى مستشفى في الرياض.
أما الأمير الثاني فهو تركي بن بندر آل سعود، كان يعملُ برتبة رفيعة في الشرطة السعوديَّة ومسؤولاً عن العائلة المالكة حسب ما كشفته BBC في تحقيق تليفزيوني، مِمَّا جعله يطّلع على معلومات حساسة جدّاً عن العائلة الحاكمة، وبعد خلاف على الإرث زُجّ به في السجن، ليغادر بعد ذلك البلاد متوجهاً إلى باريس، ثم بدأت رحلة صدامه الحاد مع الأسرة الحاكمة في عام 2012، من خلال مقاطع مصورة بدأ يطلقها على الإنترنت يدعو من خلالها إلى الإصلاح السياسي، وهدّد بالكشف عن وثائق سرية تفضح العائلة المالكة، واستمر في بثّ مقاطع الفيديو حتى تموز يوليو من عام 2015 إلى أن اختفى في ذلك العام في ظروف غامضة.
أما الثالث فهو الأمير سعود بن سيف النصر، بدأ في عام 2014 سلسلة من الهجمات والانتقادات ضد العائلة الحاكمة في السعوديَّة، عبر تغريدات على حسابه الشخصي على تويتر، ثم تجرأ بعد ذلك إلى تأييد خطابين ضدّ إسقاط رموز النِّظام في سبتمبر أيلول من العام 2015، مما أدَّى بعد ذلك إلى اختفائه تماماً.
أمير رابع اختار المنفى ويخشى العودة إلى السعودية خوفاً من يلقى مصير الأمراء الثالثة، وهو الأمير خالد بن فرحان آل سعود، فقد مكانته بعد صدامه مع بعض أفراد الأسرة الحاكمة، وكان مشككاً بكل النظام وسياسته، وبعد ممارسات وتضييقات عدة تصل إلى الإقامة الجبرية بالإضافة إلى اعتقال والده وتطليق والدته المصرية من أبيه بالإجبار حين كان طفلاً، اضطُرّ الأمير خالد إلى السفر إلى ألمانيا وطلب اللجوء إليها ليحمي نفسه من السجن الذي ينتظره أو من آلة البطش السعودية التي لا ترحم أحداً.
ناصر السعيّد (الشمري).. رُمِيَ من طائرة!
ليس فقط الأمراء مَن وقع تحت طائلة آلة القتل السعوديَّة، فقد نال المعارضون نصيبهم من ذلك، ومنهم ناصر السعيد الشمري، ابن مدينة حائل، صاحب المسيرة النضالية الطويلة في ساحات المملكة، المدافع عن حقوق العمال، والمناصر الكبير لقضية فلسطين، مما جعله يقع تحت طائلة الأجهزة الأمنية السعوديَّة، التي اعتقلته مراراً، لكنه لم يركع ووسّع مطالبه لتشمل نظام الحكم والمطالبة بدمقرطة الدولة وإحداث المؤسَّسات وتشكيل الأحزاب السياسية، حتى مغادرته المملكة، وعمله في إذاعة صوت العرب، عقب صدور أوامر عليا باعتقاله وإعدامه بدعوى الخيانة، بخاصَّة بعد كتابه الشهير "تاريخ آل سعود" الذي فضح فيه حكام المملكة وتاريخهم وأكّد أحقية الثورة ضدّهم.
لكن تمكنت أجهزة الأمنية السعوديَّة بالتعاون مع أحد التنظيمات الفلسطينية في لبنان من اختطافه عن طريق سفيرها في بيروت وشخصيات أخرى وترحيله إلى المملكة، قبل أن يختفي في ظروف غامضة، وقيل إنه أُلقِيَ به من طائرة هليكوبتر فوق صحراء الربع الخالي ليندثر جسده بين رمال الصحراء، وَفْقاً لما نقله الكاتب التونسي جعفر البكلي عن معارضين سعوديّين.
تاريخ حافل شهدته السعوديَّة كما يصرح أمين النمر، ناشط سياسي سعوديّ مقيم في لندن، لـTRT عربي، "في اختطاف كل من يعارض أي فردٍ من أفراد الأسرة الحاكمة، يصل الأمر أحياناً إلى اختطاف هؤلاء المعارضين بطرق بشعة، وتطالهم أيديهم أينما كانوا حول العالَم، فـ"السعوديَّة سجلّها طويل في عمليات الاختطاف واغتيال المعارضين، وفي بعض الحالات أو أكثرها احتجزت واختطفت جثامين كثيرين منهم بعد قتلهم".
حراك القطيف
لم يسلم أحد من الأجهزة الأمنية السعوديَّة التي عملت لخدمة أفراد الأسرة الحاكمة، فكل من كان يرفع صوته معارضاً لهم، كان مصيره القتل، أو المجهول، من داخل السعوديَّة أو من خارجها، اختطف النِّظام السعوديّ كثيراً من الناشطين والمعارضين، واستخدم صبغة الطائفية ضد معارضيه خصوصاً من خرجوا في مظاهرات إبان ثورات الربيع العربي مبرّراً لقمع هؤلاء المعارضين.
فقُمعَت المظاهرات في مناطق القطيف والعوامية ذات الغالبية الشيعية، وكان الهدف من ذلك تركيعهما وإفشال أي مساعي لتطور الحراك وتحوله لثورة تودي بتعديل نظام الحكم وكان أبشع شاهد ما يرويه النمر، عمّا حصل في أثناء حراك القطيف بين عامي 2013 و2016، إذ شهدت المنطقة احتجاز سعوديّين معارضين للنظام الحاكم، ووصل الأمر حدّ إعدامهم ميدانيّاً في الطرقات، ثم اختطاف جثث بعضهم لأسابيع وشهور طويلة.
حجز أموال أمراء وخطف رئيس وزراء
لم يقتصر الأمر في المملكة على اختطاف المعارضين، بل بلغ الأمر حدّ سلب الأموال بالعنف والتعذيب ودون محاكمة، كما جرى مع الأمراء السعوديّين مطلع عام 2018، فجرى اختطافهم وسلب أموالهم عنوةً، في حادثة أشبه بالمساومة بين الحرية والمال، فضلاً عن اختطاف رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري والتحقيق معه، بسبب إخفاقه في مواجهة خصمه السياسي في لبنان -حسبما كشفت رويترز- وإجباره على الاستقالة عبر شاشة تلفزة سعوديَّة، وهو ما اعتُبر سابقة في تاريخ السياسة.
وفي حوار خاص لـTRT عربيمع العميد ركن المتقاعد أمين حطيط، قال: "حقيقة تتبع الدول سلوكيات عدة مع المعارضين في داخل البلاد، وتنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول دولة تتقيد بالقوانين وتواجه معارضيها بالقانون، والثاني تذهب من خلاله إلى التصفية والتغييب الجسدي للمعارضين، أما الثالث فتعمد فيه إلى إبعاد المعارضين وسحب الجنسيات منهم، والسعوديَّة تتبع الفئة الثانية التي تعتمد القتل والتصفية الجسدية للمعارضين، فالنِّظام السعوديّ يرى أنه المالك للشعب ويستبدّ في التعامل معه تبعاً لذلك".
هذا "وتسخّر السعوديَّة مخابراتها في هذه العمليات بشكل أساسي، بالتعاون مع مخابرات والأجهزة الأمنية في بلدان أخرى عربية وغير عربية، ويعينها في ذلك الأموال التي تمتلكها والتي تغرب بها من تشاء، وقد وصل الأمر في تعاونها هذا للوصول إلى معلومات عن معارضيها، إلى التعاون وطلب مساعدة المخابرات الإسرائيلية التي صرحت صحفها مراراً بذلك، وتستفيد السعوديَّة على الأقل مِمَّا يمدّها به الاحتلال من أجهزة للتجسس وبرامج للحصول على المعلومات ومراقبة خصومها"، يضيف حطيط لـTRT عربي.
أين القانون من كل ذلك؟
ويرى المراقبون أنَّ الركيزة الأساسية في الدولة هي القانون الذي يمنح المواطنين حصانة من الظلم أو الاعتداء، ويمنحهم أيضاً فرصة التعبير عن رأيهم، والدفاع عن أنفسهم بطرق قانونية أمام قضاء عادل ونزيه، فإن غُيّب القانون وارتُهن بيد أشخاص، باتت الدولة أشبه بالمافيا، تُقصي من يرفض أو يعارض، ثم يتعدى الأمر إلى إخفاء جثثهم كي لا يكونوا رموزاً في المستقبل.
من وجهة قانونية كما أبرزت المحامية والباحثة في حقوق الإنسان إيناس زايدة من الأردن، في حوار خاص مع TRT عربي،فإن "أي انتهاك لحق الإنسان في التعبير عن رأيه هو اعتداء لا يمكن تبريره بأي شكل من الأشكال لأية دولة، وحتى إن كان ضد المصلحة العامَّة أو السياسية، إلا في الحدود التي أقرها القانون، مع توافق هذا القانون مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان".
تضيف زايدة: "وعند الحديث على دولة منتهكة لهذا الحقّ، فإن المحاسبة هنا تبدأ من داخل الدولة من خلال التحقيق والمحاسبة في الأمر مهما علت رتبة المنفذ في الدولة، وإن لم يتم ذلك يُتوجَّه إلى ما هو أعلى من ذلك".
لكن الواقع يقول غير ذلك، فمع مرور عام كامل على حادثة قتل الصحافي جمال خاشقجي بطريقة بشعة، لا يزال القانون لم يقتصّ من المعتدين، ولا يزال منفّذ العملية البشعة حرّاً طليقاً دون عقاب".
هذا وتظلّ ذاكرة التاريخ وحدها تحفر بحروف سوداء أسراراً أخرى لم تُعرَف بعد، وتشهد على حالات قتل واختطاف كل من يتجرأ على نقد النِّظام الحاكم في السعوديَّة، فسرعان ما يُكتَم صوتهم إلى الأبد، فهل يكون جمال خاشقجي آخر ضحايا ممارسات دولة المافيا؟!