وترى عدة أوساط في الجزائر أن تغيير مدريد لموقفها ليس اقتناعاً من جانبها، بل تحت تأثيرات دولية تتعلق بالأزمة الأوكرانية-الروسية. فقد رأت هذه الأوساط أن مدريد ظهرت كأنها تمارس دوراً في حرب وكالة للضغط على الجزائر، وذلك لعمق علاقتها مع روسيا، وتبنّيها موقف الحياد في الحرب الدائرة في أوكرانيا.
رد فعل
وجاء في تصريح للرئاسة الجزائرية أن هذا القرار جاء بعد أن "باشرت السلطات الإسبانية حملة لتبرير الموقف الذي تبنّته إزاء قضية الصحراء والذي يتنافى مع التزاماتها القانونية والأخلاقية والسياسية كقوة مديرة للإقليم، التي لا تزال تقع على عاتق مملكة إسبانيا إلى غاية إعلان الأمم المتحدة عن استكمال تصفية الاستعمار بـ"الصحراء الغربية".
وجاء هذا القرار بعد ترؤُّس الرئيس عبد المجيد تبون اجتماعاً للمجلس الأعلى للأمن "خُصّص لتقييم الوضع العامّ في البلاد".
وقبل ذلك كانت الجزائر قد استدعت سفيرها لدى مدريد للتشاور في 19 مارس/آذار، أي في اليوم الموالي للقرار الإسباني الذي وصفته بـ"التحول المفاجئ" بشأن موقفها من قضية الصحراء.
ويعتبر الخبير الاقتصادي أحمد سواهلية أن "قرار تعليق المعاهدة هو رد فعل عادي من بلد يملك السيادة على قراراته بعد الموقف الذي اتخذته مدريد من ملف الصحراء الغربية".
وبيّن سواهلية في حديثه مع TRT عربي أن "معاهدة 2002 كانت نتيجة حتمية لمجموعة من التوافقات بين البلدين وتطابق سياستهما، بخاصة بالنسبة إلى موقفهما من ملف الصحراء الغربية، الذي جعلهما يطوران علاقتهما الثنائية ويوسعانها إلى اقتصادية، وبالتالي فإن زوال هذا التطابق أدّى إلى تعليق العمل بالمعاهدة الثنائية".
ضغط بالوكالة
يعتقد مراقبون في الجزائر أن الخطوة التي اتخذتها مدريد بتوتير علاقتها مع الجزائر لم تكن نابعة من قناعة إسبانية، بل بإيعاز خارجي، وذلك بالنظر إلى نوعية العلاقات التي كانت تربط البلدين قبل تغيير مدريد موقفها من ملف "الصحراء الغربية، والتي وصفها وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي بأنها "قديمة ومهمة اقتصادياً وواعدة"، وكانت ستتوسع هذه السنة بعقد اجتماع اللجنة العليا للشراكة بين البلدين في إسبانيا، الذي سيؤجَّل إلى تاريخ غير معروف بعد التوتر الذي تعرفه اليوم.
وقال فاروق طيفور الأستاذ المحاضر في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، ومسؤول الشؤون السياسية في حركة مجتمع السلم المشاركة في البرلمان الجزائري، لـTRT عربي، إنه يعتقد أن "إسبانيا خضعت لإكراهات متنوعة كتمت بعضها واضطُرّت إلى أخرى، فتوتُّر العلاقات الجزائرية-المغربية وقرار الجزائر عدم تجديد عقد أنبوب الغاز العابر للمغرب وتغيير طريقة توريده إلى إسبانيا كان بداية مسار توتُّر العلاقات الجزائرية-الإسبانية، وجاءت الحرب الروسية-الأوكرانية لتزيد حدة التوترات البينية رغبةً في تحقيق الاصطفاف الجديد مع الحرب أو ضدها، وكانت الضحية البلدان التي تعيش تبعية في الطاقة، وفي مقدّمتها بلدان الاتحاد الأوروبي، وإسبانيا واحدة منها".
وتابع: "تسارعت الأحداث وحُقّق تقارب مغربي-إسباني بضغط وابتزاز أمريكي طاقوي لتغير إسبانيا عقيدتها كمستعمر قديم للصحراء الغربية، ورمت بذلك بنود معاهدة الصداقة الجزائرية-الإسبانية في مزاد التحالفات الجديدة، ولا سيما البند المتعلق بمبدئية تقرير الشعب الصحراوي مصيره".
بدوره يعتقد أحمد سواهلية أن تغيُّر الموقف الإسباني من قضية الصحراء الغربية يندرج ضمن "ضغط أمريكي عبر إسبانيا على الجزائر للانخراط في العقوبات الغربية على روسيا"، مبيّناً أن "من يعتقد أنه لا علاقة للأحداث العالمية بالتوتر الجزائري-الإسباني فهو مخطئ".
يعزّز هذا الرأي أنه بعد أسبوع من تغيير إسبانيا موقفها من ملف الصحراء، زار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الجزائر قادماً من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وطلب من الجزائريين تغيير موقفهم من المغرب الذي قطعت الجزائر علاقاتها الدبلوماسية معه في أغسطس/آب 2021، عقب توقيعه اتفاقات مع إسرائيل.
ونقلت أسوشيتد برس أن بلينكن قال في الجزائر: "عانت بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط من عواقب الحملات العسكرية الروسية من قبل"، وتابع: "على المجتمع الدولي تصعيد الضغط على روسيا لإنهاء هذه الحرب غير المبررة".
وبعد لقائه تبون قال بلينكن إن الصراع في أوكرانيا يجب أن يدفع جميع الدول إلى إعادة تقييم العلاقات مع روسيا والتعبير عن دعمها وحدة أراضي الدول الأخرى، وقال: "أعلم أن هذا شيء يشعر به الجزائريون بقوة".
لكن المبعوث الجزائري المكلَّف ملفّ دول المغرب العربي عمار بلاني، قال وقتها إن بلينكن لم يحثّ الجزائر على "إعادة النظر في مواقفها تجاه روسيا وملفّ الصحراء الغربية".
واعتبر بلاني في تصريح لموقع "الشروق" أن تقرير أسوشيتد برس "مبنيّ على استقراء مُغرِض بلغ حدّ التلاعب والمناورة".
لكن يعتبر مراقبون أنه ولو لم يطلب بلينكن من الجزائر تغيير موقفها من روسيا، فإن كل الوقائع تدلّ على أن واشنطن تحاول ممارسة ضغوط على الجزائر لقربها من روسيا.
تدعم هذا الرأيَ تصريحاتُ وزيرة الاقتصاد الإسبانية ناديا كالبينو الاثنين الماضي بأن قرار الجزائر تعليق معاهدة الصداقة "لم يكن مفاجئاً، لأن الجزائر تنحاز بشكل متزايد إلى روسيا".
كما قد ترتبط هذه الضغوط بتوجه أمريكي إلى زيادة مبيعاتها من الغاز واقتحام أسواق جديدة، فقد استطاعت أن تصبح المورّد الأول للغاز إلى مدريد لتزيح الجزائر من هذه المرتبة رغم استمرار إسبانيا في تغطية ما يزيد على 40% من حاجاتها من الغاز عبر الجزائر.
وتضع تقارير واشنطن ضمن أكبر الدول المستفيدة من الحرب الروسية-الأوكرانية في مجال الطاقة، بعد ارتفاع العقود الآجلة الأمريكية للغاز الطبيعي إلى أعلى مستوياتها منذ 14 عاماً في مايو/أيار الماضي، وتحقيقها مكاسب بأكثر من 100%.
غموض
لا أحد يمكنه التنبؤ بمستقبل العلاقات الجزائرية-الإسبانية في الوقت الراهن، إذ يوضح الخبير الاقتصادي سواهلية أن "استئناف العلاقات بين البلدين يبقى غير واضح"، وبالتالي فإن "هوامش العودة إلى النقطة السابقة تبقى مرتبطة بمدى إمكانية عودة إسبانيا إلى موقفها السابق من ملف الصحراء، الذي يبقى مرتبطاً بما يجري في الساحة السياسية الإسبانية الداخلية، ومدى ثقل الأحزاب النشطة في البلاد وموقفها من هذه القضية المصنفة دوليّاً ضمن قضايا تصفية الاستعمار".
وباستمرار هذا التوتر يختلف مدى تضرُّر كل بلد من هذه الأزمة. يرى سواهلية أن الضرر على الجزائر سيبقى ضمن المعقول، لأن "الجزائر يمكنها أن توقف وارداتها من مدريد المتمثلة حاليّاً في سلع محددة أغلبها من السيراميك والألبسة والنسيج". في المقابل نقلت صحف إسبانية في وقت سابق انزعاج مؤسسات محلية من قرار جمعية البنوك القاضي بوقف الاستيراد من مدريد، وقالت إن ذلك قد يكلّف المصدّرين الإسبان خسائر تصل إلى 3 مليارات دولار سنويّاً.
ولا يستبعد طيفور أن يكون للموقف الجزائري "آثار سياسية واقتصادية على إسبانيا، بدأت بحالة المعارضة البرلمانية التي تلوّح بإسقاط حكومة سانشيز، ويُحتمل أن تتطور إلى أسعار الطاقة".
ولم تُخفِ الجزائر سابقاً نيتها مراجعة أسعار الغاز المَبيع لمدريد، الذي يرتبط بعقد طويل المدى يستمرّ حتى 2030، إضافةً إلى إمكانية عدم تجديده، وهو ما يضع مدريد في مأزق بقطاع الطاقة.
لكن الذهاب إلى هذا القرار يبقى صعباً أيضاً على الجزائر التي تسعى للحفاظ على صورتها في السوق النفطية كبلد موثوق في إمدادات الطاقة، وكذا بالنظر إلى أن أنبوب "ميد غاز" الذي ينقل الغاز إلى إسبانيا يزوّد دولاً أخرى هي البرتغال وفرنسا بشكل أقلّ، ومن ثم فمن الصعب وقفه تماماً.
كما ترغب الجزائر في أن يبقى هذا الخصام ثنائيّاً لتأكيد جديتها في بناء شراكة حقيقية مع الاتحاد الأوروبي الذي يؤكد الخبراء أنه لن يضغط للوقوف مع إسبانيا لكونه "أصبح عاجزاً وواهناً جراء التغيرات الدولية، لذلك لن يذهب بعيداً في هذا التضامن مع مدريد، لأن سبب الخلاف الجزائري متعلق بمعاهدة بينية"، وفق سواهلية.
وأثار التضامن الأوروبي الضعيف مع مدريد غضب الصحافة الإسبانية من حكومة سانشيز التي اعتبرت أن تغيير موقفها من قضية الصحراء الغربية سمح لإيطاليا بتوقيع عقود شراكة مع الجزائر تجعلها المورّد للغاز الجزائري نحو أوروبا، وهو المسعى الذي تحاول ألمانيا كذلك الظفر به والذي عبرت عنه وزيرة الدولة بوزارة الخارجية الألمانية كاتيا كول التي زارت الجزائر هذا الأسبوع وعبّرَت عن رغبة برلين في تعزيز الشراكة مع الجزائر في مجال تطوير الطاقات الجديدة والمتجددة، بما يعني أن دول الاتحاد الأوروبي منشغلة في الوقت الراهن بتأمين إمداداتها من الطاقة منفردة، بعيداً عن التضامن القارِّيّ الذي كان معهوداً عنها.