حاولت إسرائيل منذ إنشائها على الأراضي الفلسطينية المحتلة كسر العزلة والحصار من خلال العمل على تفعيل الكثير من الأدوات الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية. وقد كان للأدوات التكنولوجية نصيب من هذه المساعي، إذ عملت إسرائيل على فتح علاقات لها خصوصاً في بعض الدول الإفريقية من خلال تصدير التكنولوجيا الزراعية.
وتسعى إسرائيل من خلال تعزيز مجال تكنولوجيا المعلومات للنفوذ إلى المنطقة العربية. وقد نجحت بذلك إلى حد بعيد، إذ استطاعت عقد شراكات أمنية وتكنولوجية مع العديد من دول المنطقة خصوصاً العربية الخليجية، الأمر الذي يمكن اعتباره تطبيعاً تكنولوجيا قبل التطبيع الدبلوماسي الذي جاء لاحقاً ودشنته الإمارات.
لقد أصبحت إسرائيل مع مرور الوقت قوة كبيرة في المجال التقني. ولأن المعايير الأخلاقية وحقوق الإنسان غائبة عن دولة احتلال مثل إسرائيل، فقد وجدت الكثير من حكومات المنطقة الدكتاتورية ضالتها لديها في ما يتعلق بتوريد التكنولوجيا خصوصاً المتعلقة بالتجسس والمراقبة.
إسرائيل قوة تكنولوجيا صاعدة
وفي هذا السياق أشار تقرير نشرتهStart-Up Nation Centralإلى أن إسرائيل تجاوزت الصين باعتبارها البلد الأكثر جذباً لاستثمارات رأس المال المغامر في شركات الأمن الإلكتروني خارج الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي سنة 2018 تلقت الشركات الناشئة الإسرائيلية دعماً بقيمة 1.19 مليار دولار أمريكي، أي ما يقارب 20% من استثمارات رأس المال العالمي في مجال الأمن السيبراني. ويعتبر هذا الرقم رقماً قياسياً.
وكشف كتاب أمة الشركات الناشئة وقصة معجزة الاقتصاد الإسرائيليStart-up Nation: The Story of Israel’s Economic Miracleعن تحول إسرائيل لوجهة لكبرى الشركات العالمية.
فشركةMicrosoftقامت بإنشاء أول مخبر لها خارج الولايات المتحدة الأمريكية في إسرائيل.
كذلك الأمر بالنسبة إلى شركةGoogleالتي تعتبر أهم مراكزها البحثية في حيفا وتل أبيب في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إضافة إلى الكثير من الشركات العالمية العملاقة والرائدة في المجال التكنولوجي مثلIBM وINTEL وPHILIPS...
أما شركةCISCOالتي تعتبر الأولى عالمياً في مجال المعدات الشبكية فقد قامت بشراء تسع من أكبر الشركات الإسرائيلية، ويبحث فيها رؤساء أمن المعلومات عن خدمات وحلول تجعلهم يتقدمون خطوة على المهاجمين عبر شبكة الإنترنت.
فيما يعتبر المسؤول في شركةMicrosoftستيف بالمر أن شركة مايكروسوفت تُعتبر إسرائيلية بقدر ما هي أمريكية، ويرجع ذلك إلى عدد الخبراء وفريق العمل الإسرائيليين داخل الشركة.
وفي لقاء صحفي سابق صرّح ستريم أميت Yonatan Striem Amit الشريك المؤسس والمدير التنفيذي للتكنولوجيا في Cybereason بأن "الميزة التنافسية لإسرائيل هي رأسمالها البشري وخبراء الأمن السيبراني ذوو الخبرة العميقة والواسعة".
اقرأ أيضا:
إسرائيل الرابح الأكبر من التطبيع مع الإمارات
وفي إحصائيات نشرها المنتدى الاقتصادي العالمي World Economic Forum تبين أن إسرائيل من بين الأكثر إنفاقاً على البحث العلمي والتطوير، إذ تنفق عليه 4.2% من الناتج الإجمالي المحلي.
وبذلك استطاعت إسرائيل رغم أنها دولة احتلال وسجلها سيئ في حقوق الإنسان، أن تكون رائدة في التكنولوجيا والبحث العلمي، وذلك باحتضانها كبرى الشركات العالمية وتشجيعها على بعث الشركات الصغرى القادرة على الاندماج والانصهار في كبرى الشركات العالمية، وتشجيعها على البحث العلمي والتطوير وبالتالي فتح المجال أمام الابتكار.
القوة التكنولوجية الإسرائيلية.. تهديد أمني لشعوب المنطقة
يُعتبر الدافع الأمني والعسكري لدى الجانب الإسرائيلي المحرك والمحفز الأساسي لتطوير المنظومة التكنولوجية والرقمية والدفع إلى مزيد من البحث والانصهار مع الشركات الرقمية العالمية.
وفي هذا السياق ينخرط الجيش الإسرائيلي في مخابر البحث والتطوير كرأسمال بشري هام، كما ترصد وزارة الأمن الإسرائيلية قيمة هامة من ميزانيتها لتمويل الأبحاث في الجامعات.
وبالتالي أصبحت الحروب التي يمكن أن تشنّها إسرائيل على دول المنطقة تتخذ أشكالاً جديدة، لتمثل بذلك تهديداً أمنياً حقيقياً باستخدام ما أحرزته من تقدم في المجال التكنولوجي والرقمي.
ففي بيان صادر لها يوم 16 مايو/أيار 2019 أعلنت إدارة فيسبوك حذفها لنحو 265 حساب فيسبوك وإنستغرام تديرها شركة أرخميدس الإسرائيلية، في محاولة منها لتوجيه آراء المواطنين في نيجيريا والسنغال وتوغو وأنغولا والنيجر وتونس، إضافة إلى استهدافها لأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا.
ورصدت الشركة الإسرائيلية إلى ذلك نحو 812 ألف دولار في تمويل الإعلانات المدفوعة على فيسبوك، لتحقّق الصفحات المزيفة نسبة متابعة تقدر بنحو 2.8 مليون متابع.
ونشر موقع Meduim مقالاً بعنوان حسابات فيسبوك غير الحقيقية الإسرائيلية تستهدف العالم Inauthentic Israeli Facebook Assets Target the World أشار فيه إلى أن شركة أرخميدس تعتمد تكتيكات حرب المعلومات التي يعتمدها الكرملين الروسي.
وكشف موقع The Time Of Israel عن هوية الأشخاص الذين يديرون مجموعة أرخميدس الإسرائيلية، وكان من بينهم ضابط المخابرات الإسرائيلي إيلينداف هاينمان Elinadav Heymann الذي يدير الشركة، وهو أيضاً أحد المشرفين على الكونغرس اليهودي العالمي.
وفي سنة 2016 نقل موقع الجالية اليهودية عن مصادر رفيعة المستوى بدء إسرائيل في إنشاء أكبر قاعدة استخبارات ومراقبة إلكترونية في حوض البحر الأحمر، بهدف مراقبة القوات اليمنية المناوئة للرئيس اليمني المخلوع (علي عبد الله) صالح والمليشيات الشيعية، ومراقبة التحركات الإيرانية في المنطقة، إضافة إلى مراقبة السودان المتهم في دعم المقاومة الفلسطينية حماس بالأسلحة قبل الإطاحة بعمر البشير.
وبالتالي عززت الأبحاث العلمية والتطور التكنولوجي لدولة إسرائيل صمود الاقتصاد الإسرائيلي والتهامه للأسواق العربية ومنافسته للأسواق العالمية، وتوسع نفوذه الاستخباراتي داخل الأقطار العربية وبالتالي تهديده لأمن شعوب المنطقة واستقرارها. فعلاقة دولة احتلال مع جيرانها في المنطقة لا يمكن أن تكون طبيعية، بل ستقوم حتماً على مبدأ الاستغلال والابتزاز.
التطبيع التكنولوجي العربي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي
يجبر التطور التكنولوجي الذي حققته إسرائيل دول المنطقة على تبني برامج ذاتية لتطوير خدماتها التكنولوجية، وابتكار الحلول في المجال التقني لتكفل تقدمها وتضمن أمن شعوبها وحدودها.
لكن سياسات وأنظمة حكومات المنطقة، رغم أنها تزخر بالثروات والموارد البشرية والطبيعية عاقت إحراز هذا التقدم واعتُبرت بيئة منفرة للبحث العلمي، وبذلك أصابها التأخر، وسمح لإسرائيل بالتقدم بهذا المجال رغم صغر حجمها.
ولتجاوز مختلف التحديات التي تواجهها، اتجه بعض بلدان المنطقة إلى استخدام المنتجات الإسرائيلية والتعامل مع الكيان بخاصة في الجانب الأمني الرقمي، وذلك لأن السلطات الإسرائيلية لا تضع الكثير من التساؤلات في حال الترويج لمنتجاتها في ما يتعلق بحقوق الإنسان.
واعتبر هذا التعاون فرصة ذهبية لإسرائيل لتمهيد الطريق أمام التطبيع مع البلدان العربية.
ففي تصريح صحفي سابق أجاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن سؤال ماذا يريد العرب من إسرائيل قائلاً: "ثلاثة أشياء: التكنولوجيا والتكنولوجيا ثم التكنولوجيا".
ليصبح المجال الرقمي والتكنولوجي الطعم الذي تستدرج به إسرائيل البلدان العربية التي تسعى إلى الاستفادة من خدماتها وتخاف من خطر تهديدها.
ولكن التعامل مع التكنولوجيا الإسرائيلية في الغالب لم يكن بذلك الشكل الفج، فاللوبي الإسرائيلي عمل على الاندماج والانصهار في الشركات العالمية التي تتعامل مع هذه البلدان لضمان نفوذها وتغلغلها في قطاعاتها وبخاصة الأمنية منها ووصولها إلى البيانات الخاصة، ليصبح الكيان الصهيوني من مصنع للتكنولوجيا إلى بنك كبير للمعلومات، إذ صرح في هذا الإطار ستيف بالمر المدير التنفيذي لشركة مايكروسوفت: "يتمتع العديد من الشركات في إسرائيل بخبرة واسعة في البيانات الضخمة، ونتوقع الكثير من القيادة من إسرائيل في هذا المجال".
كما اتجهت بلدان عربية إلى التعاون مع إسرائيل وبشكل سري في مجال الأمن المعلوماتي والتحري الاستخباراتي ومحاولة إجهاض بعض التجارب الديمقراطية في أقطار عربية، والوصول إلى بيانات بعض الشخصيات السياسية.
ففي تقرير صادر عن Bloomberg سنة 2017 كُشف تعامل دول من الخليج العربي مع مؤسسات إسرائيلية تحت أسماء ومجالات أنشطة وهمية، بغرض التنسيق الأمني والاستخباراتي ومن بينها كشف شبكة الجهاديين في السعودية والإمارات.
كما صرحت صحيفة هآرتس في تقرير نشر لها عن توسط الحكومة الإسرائيلية في بيع برامج التجسس Pegasus التي تنتجها شركة NSO Group لعدد من بلدان الخليج لمراقبة الشخصيات المعارضة لهذه الحكومات، وحسب التقرير فإنه تم توقيع عقود مع البحرين والإمارات والمملكة العربية السعودية.
وقُدرت قيمة صفقة واحدة من بين الموقَّع عليها بـ250 مليون دولار.
لقد استطاعت إسرائيل أن تحقق لها رصيداً على صعيد تقدم تكنولوجيا المعلومات، واستثمرت من حالة التغير التي طرأت على الإقليم للترويج لصناعاتها عند الحكومات الدكتاتورية التي كانت تبحث عن طرف يقدم لها تكنولوجيا التجسس على المعارضين من غير مساءلات أخلاقية أو تقديم أثمان سياسية. والنتيجة أن الشعوب العربية والإسلامية باتت في مواجهة غير متكافئة القوى مع إسرائيل التي تقود حرباً ناعمة، وفي مرمى الاستهداف والاختراق الذي يهدّد أمنها واستقرارها ويوجه في الغالب خياراتها الداخلية والخارجية.