كشفت الحرب الدائرة في أوكرانيا عن مدى ارتهان رغيف الخبز العالمي بمحاصيل القمح التي تنتجها تلك البلاد، هذا علاوة على السماد والحبوب الزيتية. فمنذ اندلاع الاقتتال، في 24 فبراير/شباط الماضي، توقفت تلك الصادرات عن دخول السوق العالمية، مسببة ارتفاعاً صاروخياً في الأسعار، وتكاثف شح العرض وزيادة المضاربات على خط معالمه.
هذا في وقت يتراشق فيه أطراف الحرب المسؤولية حول هذا الواقع، وبينما تسعى روسيا نحو تحقيق مكاسبها وتخفيف العقوبات عليها مقابل الإفراج عن القمح الأوكراني. تعتبر كييف ذلك ابتزازاً، وتستجدي الدعم الغربي بالسلاح لفك الحصار المضروب عليها.
أزمة عالمية
تمثل إنتاج روسيا وأوكرانيا مجتمعتين 13% من الإنتاج العالمي للقمح، و23% من حجم صادراته العالمية. واحتلت أوكرانيا وحدها، سنة 2021، المرتبة السادسة كأكبر مصدر للقمح في العالم، باستحواذها على 10% من مجمل السوق العالمية لهذه الحبوب، أي ما يفوق 50 مليون طن متري من تلك الحبوب.
هي أرقام تحيل على حجم الأزمة الغذائية التي قد تصيب العالم بغياب صادرات البلدين المتحاربين عن الأسواق؛ روسيا بسبب العقوبات الدولية، وأوكرانيا بسبب الحصار المضروب على موانئها الثماني التي تمثل بوابة خروج هذه الصادرات.
وفي سنة 2021، أطعمت محاصيل القمح الأوكراني، حسب منظمة الغذاء العالمي التابعة للأمم المتحدة، حوالي 400 مليون شخص حول العالم. بيد أن الأزمة الحالية، التي تحذر منها المنظمة نفسها، قد تهدد بصعوبة الوصول إلى الغذاء عدداً أكبر من ذلك.
وأورد "برنامج الغذاء العالمي" في تقرير سابق له، شهر مايو/أيار الماضي، بأنه: "حوالي 276 مليون شخص حول العالم يعانون بالفعل من الجوع الحاد في بداية العام. وقد يرتفع هذا الرقم بمقدار 47 مليوناً إذا استمرت الحرب، وفقاً لبرنامج الأغذية العالمي، مع أكبر ارتفاع في إفريقيا جنوب الصحراء.
وقال المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي ديفيد بيزلي، أثناء كلمة ألقاها داخل مجلس الأمن، إنه "إذا لم نتوصل إلى تحقيق حل سياسي لما يجري في أوكرانيا، فإن التهديد الذي تشكله هذه الحرب على الأمن الغذائي العالمي سيؤدي إلى حدوث المجاعة، وزعزعة استقرار البلدان، فضلاً عن الهجرة الجماعية بحكم الضرورة".
وأوضح المتحدث بأننا "نعيش حقاً أزمة غير مسبوقةٍ." وأضاف: "إن مشكلتنا الأولى في الوقت الحالي هي أسعار المواد الغذائية، بوصفها النتيجة البارزة للعاصفة مكتملة الأركان التي اجتاحت العالم في عام 2022. ولكن بحلول عام 2023 ستكون المشكلة فعلياً هي مشكلة توفر الغذاء".
وليس غياب العرض وحده في السوق العالمية للقمح ما يهدد رغيف خبز البشرية، بل المضاربات التي يسببها هذا العرض، ما يؤدي إلى ارتفاع صاروخي في الأسعار.
وقد أدى الاضطراب الناجم عن الحرب بالفعل إلى دفع أسعار السلع الغذائية إلى أعلى بكثير من المستويات القياسية التي وصلت إليها في وقت سابق من هذا العام، ففي مارس/آذار، ارتفعت أسعار تصدير القمح والذرة بنسبة 22% و 20% على التوالي، علاوة على الزيادات الحادة في عام 2021 وأوائل عام 2022 بسبب الأزمة الصحية.
كرة واحدة وملاعب عديدة!
العوائق التي تتسبب في عرقلة خروج صادرات القمح الأوكرانية مزدوجة، على رأسها الحصار الذي تفرضه البوارج الروسية على شريطها الساحلي، كذلك الحصار الذي فرضته كييف على نفسها بتلغيم تلك السواحل من أجل كبح تقدم الروس نحوها.
بالمقابل، كل الحلول الأخرى المطروحة أمام كييف من أجل تصريف مخزونها من القمح، كالتصدير عبر مواني رومانيا وبلغاريا، أو التصدير عبر مواني دول البلطيق وبولندا، أو التصدير عبر نهر الدانوب المار بحدودها الجنوبية. ممتنعة لعقبات لوجيستية وأخرى مالية وقانونية.
ما يجعل فك الخناق على البحر الأسود حلاً لا غنى عنه. وقد حذَّر المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي قائلاً: بأن "الإخفاق في فتح المواني الواقعة في منطقة أوديسا سيكون بمثابة إعلان الحرب على الأمن الغذائي العالمي".
وفي هذا السياق، تتقاذف كرة الأزمة الغذائية الوشيكة ملاعب عدة. فمن ناحية تبدي روسيا استعدادها للإفراج عن صادرات القمح الأوكرانية مقابل تخفيف العقوبات الدولية المفروضة عليها. ومن ناحية تعتبر أوكرانيا، ومعها الغرب، كون هذا ابتزازاً.
وبين هذا وذاك أطلقت تركيا جهوداً للوساطة في إيجاد حل لهذه المسألة، هذا ما كشف عنه وزير خارجيتها، مولود جاوش أوغلو، قائلاً: "نحن الآن نؤدي دوراً مهماً في مغادرة السفن المحملة بالحبوب، من المواني بشكل آمن".