طالبت الجزائر منذ توقيعها على اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي قبل 17 سنة، بإعادة صياغة هذا الاتفاق ومراجعته، بالنظر إلى عدم جديته في تقديم قيمة مضافة إلى اقتصادها، وهو ما لم يتحقّق حتى الآن.
إلا أن أزمة الطاقة والغاز التي تعيشها أوروبا جعلت رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال يعلن في زيارته الأخيرة للجزائر استعداد الأوروبيين للاستجابة للطلب الجزائري، فما الذي تَغيَّر في الضفة الشمالية للبحر المتوسط عن السنوات السابقة حتى جعلها تقبل بمقترح الجزائر؟
عند إبرام الاتفاق قبل 20 عاماً كانت هناك وعود بإنشاء "منطقة ازدهار مشتركة"، إلا أن ذلك لم يتحقق للجزائر التي تحولت إلى سوق لسلع الاتحاد الأوروبي الذي كان الرابح الوحيد في هذا الاتفاق، وهو ما جعل الجزائر تطالب سنوياً بتأجيل العمل بهذا الاتفاق.
عدم استفادة
في مستهل شهر سبتمبر/أيلول 2005، دخل اتفاق الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي الموقَّع عليه في أبريل/نيسان 2002 حيّز التنفيذ بهدف تعزيز التبادل الاقتصادي بين الطرفين، وبالخصوص للجزائر التي كانت تبحث مع بداية الألفية الثالثة عن الخروج من عزلتها الاقتصادية بسبب الأزمة السياسية والأمنية التي عاشتها في تسعينيات القرن الماضي، وفق ما أوضحه المحلل الاقتصادي جلال بوسمينة لـTRT عربي، الذي أضاف أن "هذه الظروف جعلت الجزائر توقّع على الاتفاق من موقع ضعف لا قوة".
ونص اتفاق الشراكة على التفكيك التدريجي للرسوم الجمركية عبر مراحل بدأت عام 2007 بنسبة 20 في المئة، لتمسّ أكثر من ألف منتج، لكن الخسائر المتوالية التي تكبدتها المؤسسات الجزائرية، ومعها الاقتصاد، جعلت الحكومة تطالب كل مرة بتأجيل تطبيق المراحل المتوالية من التفكيك الجمركي، وقُدّم آخر طلب عام 2017.
وأضاف بوسمينة أن "من أسباب عدم استفادة الجزائر من اتفاق الشراكة ضعف اقتصادها الذي لا يملك الوسائل الكافية لمنافسة الاقتصاد الأوروبي، ما جعل الميزان التجاري خارج المحروقات يصبّ في صالح تكتُّل القارة العجوز"، مشيراً إلى أنه "في عام 2020 صدّرَت الجزائر ما قيمته 11.4 مليار دولار نحو أوروبا، وأغلبه من المحروقات، لكن في الوقت ذاته استوردت ما قيمته 13.5 مليار دولار من دول الاتحاد، وهو رقم كان أكثر بكثير في السنوات السابقة قبل أن ينخفض في الأعوام الأخيرة بعد لجوء الحكومة الجزائرية إلى تقييد الاستيراد عبر نظام الرخص".
وبيّن المحلل الاقتصادي أن "من بين 110 موادّ تحوزها الاتفاقية، توجد 32 مادة خاصة بالتجارة الخارجية وحرية نقل السلع والخدمات، وهو ما جعل الاتفاقية تخدم الاتحاد الأوروبي أكثر".
ضرورة المراجعة
في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2021، أمر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الحكومة بإعادة تقييم اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي "بنداً بنداً وفق نظرة سيادية، ووفق مبدأ رابح-رابح".
وحسب تبون، فإن مراجعة الاتفاق يجب أن تراعي "مصلحة المنتج الوطني لخلق نسيج صناعي ومناصب شغل (فرص عمل)".
وهذه ليست المرة الأولى التي تطالب فيها الجزائر بمراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، ففي ديسمبر/كانون الأول 2020 قال وزير الخارجية الجزائري السابق صبري بوقدوم على هامش أشغال الدورة 12 لمجلس الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوروبي، إن "الأخير لا يعارض مراجعة الاتفاق، وله إرادة للحوار حول هذا الملفّ".
وأشار بوقدوم وقتها إلى أن بلاده "تطالب بمراجعة للاتفاق توازن بين مصالح الطرفين".
وقال أستاذ الاقتصاد بجامعة المدية عمر هارون لـTRT عربي، إن "عديداً من موادّ الاتفاق يستدعي إعادة النظر، وبالخصوص ما تَعلَّق بالسماح للسلع الجزائرية بدخول الأسواق الأوروبية بلا عراقيل مع التفكيك الكامل للتعريفة الجمركية، والسماح بحماية الصناعات الناشئة ونقل التكنولوجيا والعمل المشترك على توطين الصناعة في الجزائر، والمساهمة في تكوين العنصر البشري، وغيرها من المطالب التي تصل معها العلاقة إلى مرحلة الشراكة لتصبح قائمة على مبدأ رابح-رابح".
وضع جديد
ظلت دول الاتحاد الأوروبي في السنوات الماضية تتهرب من مراجعة اتفاق الشراكة مع الجزائر، رغم الدعوات العديدة التي قدّمتها الجزائر، لكونها الطرف المستفيد من هذا الوضع على جميع المستويات، إذ تأتي 60 بالمئة من واردات الجزائر من أوروبا، وفق إحصائيات غير رسمية.
لكن خطاب الأوروبيين تَغيَّر هذا العام، ففي الخامس من سبتمبر/أيلول الجاري قال رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال عقب محادثات جمعته بالرئيس تبون: "نعتبر أن اتفاق الشراكة إطار يجب أن يُضفِي تحسينات وفق الإرادة المشتركة، من هنا وهناك، لتحديد الأولويات المشتركة خدمة لمصالح الطرفين".
وأضاف أن الجزائر والاتحاد الأوروبي لهما "طموح مشترك لتحقيق الاستقرار والأمن والازدهار"، مُبدِياً في الوقت ذاته "تفاؤله الشديد" بتطوير "شراكة أقوى وأصدق تُفضِي إلى نتائج ملموسة لمواطني الجزائر والاتحاد الأوروبي".
واعتبر ميشال أن "التعاون في مجال الطاقة أمر أساسي فعلاً في ظل الظروف الدولية التي نشهدها، إذ نرى في الجزائر شريكاً موثوقاً ووفيّاً وملتزماً"، لافتاً إلى أن الجزائر والاتحاد الأوروبي "يتقاسمان الطموح نفسه لإعطاء دفع جديد لنوعية العلاقات بينهما".
ويرى المحلل الاقتصادي بوسمينة أن "حاجة أوروبا إلى الغاز من العوامل التي جعلت الاتحاد وكثيراً من دوله يتقربون أكثر إلى الجزائر ويقدّمون استعدادات لمراجعة اتفاق الشراكة، بالنظر إلى أن الجزائر تُعتبر ثالث مصدر للغاز نحو أوروبا بعد روسيا والنرويج، وبالتالي فهي أحد أهم مصادر تعويض الغاز الروسي مستقبَلاً".
ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، طُرح اسم الجزائر في تقارير متخصصة وفي تصريحات رسمية بديلاً من إمدادات الغاز الروسي، وهو ما جعلها تعقد اتفاقات في هذا الشأن مع إيطاليا لزيادة الإنتاج، وأخرى منتظرة مع فرنسا، وبأسعار جديدة.
لكن جلال بوسمينة يوضح أن "الغاز ليس العامل الوحيد لهذا الاستعداد الأوروبي، فأوروبا في صراع جيوسياسي مع روسيا، وضمان حيادها على الأقلّ والإبقاء على علاقات اقتصادية معها واتفاقيات أمر مهم جيوسياسياً لأوروبا، إضافة إلى أن الجزائر أصبحت في موقع تفاوض أقوى، بخاصة بعد إقامة علاقات اقتصادية استراتيجية أكبر مع الصين وتراجع استثمارات فرنسا بالجزائر ومنع خيارات أكبر للجزائر اقتصادياً مستقبلاً، كلها عوامل تجعل الاتحاد الأوروبي يفضّل تعديل اتفاقية الشراكة على إلغائها".
يذكّر الدكتور عمر هارون في حديثه مع TRT عربي بأن "الجزائر لم تفكر في مراجعة الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي في ظل أزمة الغاز، بل كان هذا موقف الرئيس تبون منذ تنصيبه، مما يدلّ على أن الجزائر طالبت بمراجعة الاتفاق لأسباب موضوعية، لا استغلالاً للفرصة".
ويعتقد جلال بوسمينة أن "الجزائر يمكنها الاستفادة من أزمة الطاقة من خلال طرح قضية اتفاق الشراكة خلال اللقاءات التي تجمعها بأطراف أوروبية حول تزويد القارة العجوز بكميات إضافية من الغاز، لكن يبقى الأهم من كل هذا ان تعمل الجزائر على تحسين مناخ الاستثمار بالداخل وتحرير الاقتصاد تدريجيّاً".
وفي انتظار ما ستحمله الأيام القادمة من جديد بشأن اتفاق الشراكة، يبدو أن الطرفين يتجهان إلى مزيد من تعزيز علاقاتهما التجارية والسياسية في ظل أزمة الطاقة، فلأول مرة منذ توقيع الاتفاق انعقدت هذا الأسبوع الدورة الأولى للجنة البرلمانية المشتركة الجزائر-الاتحاد الأوروبي، التي من شأنها المساهمة في تعزيز التعاون بين الطرفين عبر الدبلوماسية البرلمانية.