لم يكن ينقص السوريين أزمات سوى حرائق كبرى تندلع في المناطق الحراجية تأتي على محاصيلهم الزراعية وتلتهم ما تبقى في أيديهم من رزق، بعد أن تولى النظام السوري بنفسه تدمير نصف البلاد وتهجير ثلث سكانها وترويع الآمنين وقتل الأطفال، وإدخال الناس في دوامة الطوابير اليومية وسط شح في المواد الأولية وغلاء شديد في المعيشة وانهيار متواصل للاقتصاد.
ومنذ مساء الجمعة، اندلع عديد من الحرائق في أحراج وغابات ومناطق زراعية في كل من اللاذقية وطرطوس الساحليتين غرباً ومحافظة حمص المجاورة لهما وسط البلاد. وما لبثت رقعة الحرائق أن اتسعت في اليوم التالي وأدت إلى تدمير مساحات زراعية واسعة يغلب عليها أشجار الزيتون التي كان أصحابها بصدد قطافها.
وتواصلت الحرائق على مدى يومين وتجاوز عددها مئتين، حتى أعلن مسؤولو النظام السيطرة عليها وإخمادها مساء الأحد، لتترك عديداً من التساؤلات والروايات المتضاربة حول أسباب اندلاع الحرائق وتطورها بهذه السرعة ملحقة ضرراً غير معتاد بالمحاصيل الزراعية، وحول فشل النظام في احتواء الموقف بالسرعة المطلوبة.
"فشل عام"
ليست الحرائق الأخيرة هي الأولى من نوعها، فمن المعتاد اندلاع مثل هذه الحرائق في المناطق الحراجية شمال وغرب سوريا في مثل هذا الوقت من العام، نتيجة عوامل جوية عديدة تؤدي عادة إلى اندلاع حرائق مماثلة في معظم أنحاء العالم.
إلا أن حرائق الجبال الساحلية في الأيام القليلة الماضية كانت مفاجئة بصورة لافتة، سواء من حيث المساحات الواسعة التي أتت عليها، أو من حيث التهامها المحاصيل الزراعية التي كان الفلاحون بصدد قطافها بوصفها مصدر رزقهم الوحيد. وذلك تزامن مع اتهامات وجهت للنظام وأجهزته المعني بعدم بذل ما يكفي من جهود لاحتواء الحرائق وإخمادها بالسرعة اللازمة.
رائد الصالح، مدير منظمة الخوذ البيضاء في مناطق المعارضة، وهي منظمة معنية بأعمال الدفاع المدني، يرى أن كل حرائق الغابات يمكن السيطرة عليها إذا كانت هناك قوة وسرعة استجابة في عملية إطفاء الحرائق. وأضاف: "لكن عجز النظام، الذي لا نستطيع أن نعزوه إلى ضعف الإمكانيات إذ امتلك إمكانيات كبيرة جداً في قتل السوريين، يمكن عزوه إلى سوء إدارة وفشل في إدارة الدولة بشكل عام".
وفي تقييمه لطريقة معالجة النظام للأزمة تابع الصالح حديثه لـTRT عربي قائلاً: "النظام لم يستطع إدارة أي ازمة طارئة حدثت في السنوات الماضية، وهذا سبب ما وصلت إليه حال سوريا والسوريين الآن".
وأوضح أن "النظام لم يكلف نفسه عناء إنشاء بنية تحتية لإدارة الكوارث الطبيعية والحرائق، ومنها على سبيل المثال فتح طرق حراجية بين الغابات حتى تستطيع سيارات الإطفاء الوصول إلى المناطق المنكوبة". واستدل مدير "الخوذ البيضاء" على فشل النظام "المزمن" بحقيقة مفادها أن نظام الأسد كان حتى قبل عام 2011 غير قادر على السيطرة على الحرائق المشابهة، إذ كان دائماً يستعين بالحكومة التركية التي كانت ترسل طائراتها للمساعدة على تطويق الحرائق في المنطقة.
أسباب الحرائق
وحول أسباب اندلاع الحرائق الحالية في الساحل السوري، اعتبر المهندس محمد حلاج، مدير "منسقو استجابة سوريا"، وهي منظمة معنية بأعمال الإغاثة والطوارئ، أن ارتفاع الحرارة بشكل كبير هذا الصيف تسبب في ارتفاع وتيرة الحرائق، لكنه رأى أن من الأسباب أيضاً أن النظام كان يوجه آلياته العسكرية، بخاصة الطائرات، باتجاه المناطق الخارجة عن سيطرته لاستهداف المدنيين، في حين أنه "عندما احتاج إليها أظهر عجزاً واضحاً في إطفاء الحرائق".
وشدد حلاج في حديث مع TRT عربي على أن النظام السوري "لا يهمه المدنيون ولا حتى المؤيدون منهم، ولو كان مهتمّاً لتصرف بطريقة مختلفة" لمعالجة أزمة الحرائق.
وأضاف: "لاحظنا أن الناس في مناطق النظام تعاني معاناة كبيرة من الوضع الاقتصادي المتردي، فما بالك بخسائر لحقت آلاف الهكتارات الزراعية؟"، مبيناً أن الحرائق أدت إلى تضرر نحو 140 ألف نسمة، ونزوح نحو 25 ألف شخص، بالإضافة إلى تضرُّر المحاصيل الزراعية.
وخلص إلى القول إن "هذا دليل على أن النظام السوري منذ بداياته حتى الآن لديه مشكلة في إدارة أي أزمة، إلا بلغة الحديد والسلاح والتهديد".
من جهته، قدم رائد الصالح مدير منظمة الخوذ البيضاء (الدفاع المدني) رواية أخرى لأسباب اندلاع الحرائق الأخيرة، إذ لفت إلى اندلاع حرائق مماثلة قبل شهر، إلا أنها "كانت طبيعية ومنتشرة في كل أنحاء العالم، وناتجة عن ارتفاع الحرارة"، رغم أنه قد يكون هناك تدخل بشري ناتج عن قلة الوعي، وفقاً للصالح.
ولكنه لفت إلى أنه يعتقد أن الحرائق الأخيرة في الأيام القليلة الماضية كانت "مفتعَلة من النظام أو من أمراء الحرب الذين رباهم النظام خلال السنوات العشر الماضية"، والذين كانوا يعتاشون على عمليات السرقة وتعفيش البيوت خلال اقتحام قوات النظام المدن.
ورأى مدير "الخوذ البيضاء" أنه بعد هدوء العمليات العسكرية في مارس/آذار الماضي لم يبق أمام أمراء الحرب الموالين للنظام مصدر تمويل كبير كما كان في السابق، فوقعت سلسلة عمليات خطف، ولكن "يبدو أن النظام وقفها". ووجه الصالح الاتهام إلى النظام ورجاله بافتعال عمليات الحرق، مبيناً: "تأتي هذه الحرائق قُبيل فصل الشتاء في وقت لا توجد فيه محروقات في أسواق النظام، وأمراء الحرب لديه سيقطعون هذه الأشجار لاحقاً ويبيعوها للمدنيين في مناطق النظام ويحققون أرباحاً من هذه العملية".
تداعيات سياسية واقتصادية
ومن المتوقع أن تعود الحرائق والضرر الذي أحدثته بالأراضي الزراعية بالخسارة على المزارعين، لتشكل من ثم نكبة اقتصادية جديدة للبلاد، تطال هذه المرة ليس فقط مناطق سيطرة النظام السوري بل حتى أقرب مؤيديه.
وأوضحت الحرائق الأخيرة بجلاء أن النظام إما غير مهتم بإنقاذ حتى أقرب المؤيدين له وإما غير قادر على ذلك، وإما كلاهما معاً، لأنه لم يعتد إدارة أزمة أو كارثة طبيعية من قبل وهو ما قد يجعله أكثر عراء حتى أمام أنصاره.
الصحافي والكاتب السوري نضال معلوف، يرى أن الآثار الاقتصادية لحرائق غرب سوريا "ستؤثر في الطبقة المعدمة في النهاية من خلال مسارين: الأول هو المتضررون مباشرةً من المزارعين الذين احترقت أراضيهم الزراعية".
وأضاف في حديث مع TRT عربي، أن "الحكومة مفلسة، والاقتصاد منهار، ولا مقومات تدل على أنه يمكن تعويض هؤلاء، بما يعني أن آلاف الأسر السورية ستنضمّ إلى قائمة الفقر والعوز".
أما المسار الثاني، حسب معلوف، وهو أيضاً رئيس تحرير موقع سيريانيوز الإخباري، فهو نقص المواد الغذائية الأساسية التي يعتمد عليها المواطن السوري، وأهمها زيت الزيتون، بالإضافة إلى الحمضيات والخضراوات، في ظل انخفاض في مستوى المعيشة وتراجع القدرة الشرائية، بما سيشكل مشكلة حقيقية على المدى المنظور لمعظم السوريين.
وحول التداعيات السياسية لهذه الكارثة، فقد اعتبر الصحافي السوري أن العقوبات المفروضة على النظام وقانون قيصر والتشدُّد في تطبيق هذه العقوبات، ستجعل الفرصة في حصوله على أي عائداتٍ معدومةً، وبالتالي قدرته على الحركة والمناورة محدودة. وخلص إلى أنه "وسط عدم قدرته على الإيفاء بوعوده المتكررة، ستضعف الروابط التي جعلت قسماً من المواطنين السوريين يتعلقون بالنظام ويدعمونه".
وأوضح ذلك بقوله إن سبب دعم كثير من السوريين للنظام هو اعتقادهم أنه يمنحهم "حماية" أمنية واقتصادية، وعندما يكتشف المواطن السوري أن النظام بات ضعيفاً وعاجزاً عن تأمين هذه الحماية، وأن الخطر وصل إلى لقمة عيشه، ستضعف هذه الرابطة كثيراً، وإذا لم يسعَ المواطنون بفعل الخوف والترهيب الذي تعرضت له سوريا في السنوات الماضية لتغيير النظام، فإنهم على الأقلّ لن يمانعوا ذلك.