تابعنا
تعيد الأوضاع المأساوية الحالية في غزة تاريخاً طويلاً من الانتهاكات الإسرائيلية إلى الواجهة، تنتظر العدالة لضحاياها من الأرواح المنكوبة، حيث تبقى البيوت المدمرة والشوارع المنهكة شاهداً على تلك اللحظات القاسية التي لم تُحسم بعد.

لم تبدأ سلسلة الجرائم الإنسانية التي اقترفها الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني من لحظة الرد على عملية "طوفان الأقصى" غير المسبوقة في 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بل ارتكب الاحتلال جرائم حرب بشعة عدّة منذ عقود، عبر تنفيذ سياسات وإجراءات التدمير الشامل الممنهج للمدن والقرى الفلسطينية، بالإضافة إلى إجراءات التهجير الجماعي الشامل للسكان الفلسطينيين.

خلال الأيام الماضية، شهد قطاع غزة قصفاً إسرائيلياً كثيفاً أدى إلى سقوط 6055 شهيداً وأكثر من 15 ألف جريح، كان أبرزها استهداف قوات الاحتلال الإسرائيلي بشكل مباشر المرافق المدنية، مثل قصف مستشفى "المعمداني الأهلي" الذي أوقع قرابة 500 شهيد من المدنيين، واستهداف دور العبادة عندما استهدف الاحتلال أقدم كنيسة للروم الأرثوذكس في مدينة غزة، كما دمّر القصف المسجد العمري في مدينة جباليا.

أسلحة محرمة دولياً

وأكدت وزارة الخارجية الفلسطينية أنّ "الاحتلال الإسرائيلي يستخدم الفوسفور الأبيض المحرّم ضدّ الفلسطينيين، في منطقة الكرامة شمال غزة".

وأفادت لما فقيه، مديرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في "هيومن رايتس ووتش"، بأنّ "كل مرة يُستخدم فيها في مناطق مدنية مكتظة، يشكّل الفسفور الأبيض خطراً كبيراً يتمثل بإحداث حروق مؤلمة ومعاناة مدى الحياة. الفوسفور الأبيض عشوائي بشكل غير قانوني عند انفجاره جواً في مناطق حضرية مأهولة، إذ يمكن أن يحرق المنازل ويلحق ضرراً فادحاً بالمدنيين".

وأضافت فقيه أنّه "لتجنب إلحاق الأذى بالمدنيين، على إسرائيل التوقف عن استخدام الفسفور الأبيض في المناطق المأهولة، وعلى أطراف النزاع بذل كل ما في وسعها لتجنيب المدنيين مزيداً من المعاناة".

وثقت منظمة "العفو الدولية" ارتكاب القوات الإسرائيلية هجمات غير قانونية، من بينها غارات عشوائية خلال الأيام الأخيرة الماضية، تسبّبت في سقوط أعداد كبيرة من المدنيين، وأوصت بالتحقيق فيها على أنّها جرائم حرب.

عقود من الانتهاكات

تعيد الأوضاع المأساوية الحالية في غزة تاريخاً طويلاً من الانتهاكات الإسرائيلية إلى الواجهة، تنتظر العدالة لضحاياها من الأرواح المنكوبة، حيث تبقى البيوت المدمرة والشوارع المنهكة شاهداً على تلك اللحظات القاسية التي لم تُحسم بعد.

وتسيطر إسرائيل على مناطق الفلسطينيين منذ عشرات الأعوام من خلال القمع والتمييز لحقوق السكان، ضمن خمسة فئات على الأقل من الانتهاكات الجسيمة لقانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدوليين، وفق تقارير حقوقية دولية، تشمل القتل غير المشروع، والتهجير القسري، والاعتقال التعسفي، وإغلاق قطاع غزة والقيود الأخرى غير المبرّرة على التنقل، والاستيطان، إلى جانب السياسات التمييزية التي تضرّ بالفلسطينيين وتُفقدهم الحق في تقرير المصير، وإذا لم تكن فئة سكانية حرة في تقرير مصيرها السياسي، فمن شبه المؤكد ألّا تتحقق حقوقها الأساسية الأخرى.

وقتلت القوات الإسرائيلية أكثر من 2000 مدني فلسطيني في النزاعات الثلاثة الأخيرة في غزة (2009 و2008 و2012 و2014)، حسب بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا"، وكثير من هذه الهجمات يشكل انتهاكاً للقانون الإنساني الدولي، بسبب عدم اتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب المدنيين، ويشكل بعضها جرائم حرب.

وفي الأراضي الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967، خمسة ملايين فلسطيني عديمو الجنسية، يعيشون دون حقوق في حالة شديدة من القهر، وليس لديهم طريق لتقرير المصير أو لإقامة دولة مستقلة قابلة للحياة، كما وعد المجتمع الدولي مراراً وتكراراً بأنّها حقهم.

وعلى مدى العقود الخمسة الماضية، أنشأت إسرائيل 300 مستوطنة مدنية لليهود فقط، وجميعها غير قانونية، مع وجود 700 ألف مستوطن يهودي إسرائيلي يعيشون في القدس الشرقية والضفة الغربية وسط ثلاثة ملايين فلسطيني، لكن منفصلون عنهم، وفق تقرير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان الخاص بفلسطين لعام 2022.

كما صادرت السلطات الإسرائيلية آلاف الأفدنة من الأراضي الفلسطينية لمصلحة المستوطنات والبُنية التحتية الداعمة لها، وجعلت حصول الفلسطينيين على تصاريح بناء في القدس الشرقية وفي 60% من الضفة الغربية الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية، أمراً مستحيلاً تقريباً، أدّى ذلك وغيره من القرارات التمييزية إلى إجبار الفلسطينيين على مغادرة منازلهم أو البناء تحت طائلة رؤية منازلهم "غير المرخصة" تجرف.

ووفق وفق هيومن رايتس ووتش، فإنّ إسرائيل استبعدت بشكل تعسفي مئات آلاف الفلسطينيين من سجل سكانها، ما حدّ من قدرتهم على العيش في الضفة الغربية وغزة والسفر منهما.

وفي الأعوام الـ25 الأخيرة، شدّد الاحتلال القيود على حركة الناس والبضائع من وإلى غزة، بما يتخطى بأشواط أي ضرورة للأمن الإسرائيلي يمكن تصورها، وتؤثر هذه القيود تقريباً في كل جانب من جوانب الحياة اليومية.

وبدأت إسرائيل بفرض الحصار على قطاع غزة بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية في يناير/كانون الثاني عام 2006، ثم شددته بعد سيطرة الحركة عسكرياً على القطاع في يونيو/حزيران 2007، إذ أعلنت غزة "كياناً معادياً"، حسب المركز "الأورومتوسطي لحقوق الإنسان"، وفرضت عقوبات إضافية مسّت على نحو مباشر الحقوق الأساسية للسكان، وشمل ذلك فرض قيود مشدّدة على دخول الوقود والبضائع وحركة الأفراد من وإلى القطاع.

وعلى مرّ السنين، عملت السلطات الإسرائيلية على ترسيخ سياسة عزل قطاع غزة، من خلال فصله عن الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، إلى جانب التحكم في كمية ونوعية البضائع والمواد التي تدخل إلى قطاع غزة وحظر مئات منها، ما تسبّب بركود اقتصادي شامل في القطاع، وارتفاع حاد في معدلات الفقر والبطالة.

القوانين الدولية "هي الأساس"

ويقول رئيس جمعية المحامين في القانون الدولي في باريس مجيد بودن، إنّ "قانون الحرب يسعى دائماً إلى تجنيب المدنيين آثار الأعمال العدائية، من خلال فرض قيود ومحظورات على سير الحرب، وباعتبار إسرائيل دولة محتلة، فإنّ اندلاع الأعمال العدائية خلال الأيام الأخيرة بين إسرائيل وحماس من شأنه أن يؤدي إلى تفعيل قوانين الحرب".

وتتكون قوانين الحرب، المعروفة أيضاً باسم القانون الإنساني الدولي، من اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949، وبروتوكولَيها الإضافيَين لعام 1977، واتفاقيتَي لاهاي لعامي 1899 و1907، بالإضافة إلى اتفاقيات معينة تتعلق بالأسلحة.

ويوضح بودن لـTRT عربي، أنّ "استهداف المدنيين والبُنى التحتية خرق واضح للقانون الدولي والقانون الدولي يفرض على سلطة الاحتلال واجب احترام الأراضي التي تحتلها".

ويضيف أنّ "القانون الدولي من المفترض أن يكون الأساس الصلب الذي يمكن التحرك على أساسه، وللفلسطينيين الحق دائماً بتوثيق الوقائع بشكل رسمي وتقديم ما يلزم للمحكمة الجنائية الدولية للملاحقة الجنائية لكل الأطراف الذين شاركوا بجرائم الحرب هناك (غزة)".

وبدأ سريان معاهدة المحكمة الجنائية الدولية رسمياً لفلسطين في 1 أبريل/نيسان 2015، فمنحت المحكمة اختصاصاً يرجع إلى 13 يونيو/حزيران 2014 بالجرائم الخطيرة، بما فيها جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، المرتكبة على الأراضي الفلسطينية أو انطلاقاً منها.

كما أنّ القواعد التي تحكم سير الأعمال العدائية في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية هي نفسها في الأساس، ويبقى الشرط الأهم في جميع الصراعات، حسب بودن، هو أنّ المقاتلين يجب أن يميزوا دائماً بين المدنيين والمقاتلين، وأنّ الهجمات لا يمكن توجيهها إلا نحو المقاتلين والأهداف العسكرية الأخرى فقط.

المدنيون في غزة يحميهم القانون الدولي الإنساني بموجب قاعدة التناسب، وفق ما يوضحه الخبير القانوني، وتحظر هذه القاعدة الهجوم على هدف عسكري يمكن أن يتسبّب في وقوع خسائر في صفوف المدنيين بشكل متوقع، أو غير متناسبة مع الميزة المتوقعة من تدمير الهدف.

وفي حالة غزة، تتطلب هذه القاعدة أنّه قبل شن الهجوم، أن يحلل ويحدد الجيش الإسرائيلي التأثير المحتمل على المدنيين، وإذا بدا أنّ مثل هذا الهجوم سوف يتسبّب في خسائر غير متناسبة في صفوف المدنيين، فيجب تعليقه أو إلغاؤه.

وللكثافة الحضرية في غزة، سيكون من الصعب للغاية على الإسرائيليين تجنّب وقوع إصابات كبيرة بين المدنيين، حتى عند استخدام الأسلحة الدقيقة.

الحاجة إلى تدخل مناسب

في 18 من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي ضدّ قرار يدعو إلى "هدنة إنسانية" للسماح بدخول المساعدات إلى قطاع غزة.

وحصل القرار على 12 صوتاً مؤيداً، مقابل صوت واحد رافض، وامتناع روسيا والمملكة المتحدة عن التصويت، وسط تحركات دبلوماسية تشهدها منطقة الشرق الأوسط للبحث عن حلول عاجلة لحماية المدنيين في غزة.

ويرى الكاتب والباحث السياسي أشرف عكة، أنّ "الوضع في غزة الآن لا يحتاج إلى مواقف دبلوماسية، بل يحتاج إلى مواقف حقيقية وجدية، لأنّ الحراك السياسي لن يفضي بالضرورة إلى قرارات عبر الآليات الدولية مثل مجلس الأمن، كون أي محاولة عبر هذه الآليات ستصطدم بالفيتو الأمريكي".

ويضيف عكة لـTRT عربي، أنّ "المواقف العربية يجب أن تخرج من دائرة الإدانات والبيانات إلى الفعل والتهديد المباشر لإسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة الأمريكية الداعم الرئيسي للاحتلال"، مشيراً إلى أنّ "التصعيد الخطير في فلسطين من الجانب العسكري والإنساني وصل إلى مراحله النهائية، وبالتالي لا يتناسب معه نبرة الإدانات فقط، وإنما بحاجة إلى تدخل مباشر".

ويوصى الباحث السياسي بـ"إصلاح أو تغيير الآليات القائمة التي تعمل بها الأمم المتحدة، لأنّها عاجزة على إدانة إسرائيل وتحميلها جرائم الحرب المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، لأنّ الدول الغربية هي من تهيمن على الأمم المتحدة بمعايير مزدوجة".

TRT عربي
الأكثر تداولاً