ضرب الاتحاد الأوروبي نموذجاً فريداً يحتذى به للجماعات والمنظمات الإقليمية في كيفية خلق أرضية تعاون مشترك وتطبيق سياسات اقتصادية، وتجارية، وسياحية، وثقافية منفتحة بين دول الجوار. وجاء ذلك مُكللاً لجهود امتدت لعقود، حيث تمكّنت الدول الأوروبية من محو آثار الماضي الأليم الذي اتّسم بالتناحر والتصارع الدموي.
وبعد وصوله إلى ذروة التعاون والوحدة مع مطلع الألفية الثالثة، عصفت الأزمات المتتالية واحدة تلو الأخرى بدول الاتحاد، بدءاً من الأزمات الاقتصادية عامي 2008 و2012 التي لم تتعافَ عواصم أوروبية منها بعد، مروراً بالـ"بريكسيت" الذي فجرته بريطانيا بعد استفتاء 2016 ثم مغادرتها الاتحاد الأوروبي رسمياً مطلع العام الجاري، وأخيراً جائحة كورونا التي ألقت بظلالها على وجود "شروخ" في بنية تعاون الوحدة الأوروبية.
كما تسببت التحوّلات الديمغرافية التي تتمثّل في شيخوخة الهرم الاجتماعي في أوروبا، واجتياح موجات المهاجرين خلال العقد الأخير للعديد من الدول الأوروبية، في تغيُّر يراه معنيون بأنه يحتّم تحوّلاً مصيرياً في أوروبا.
وعقب الأزمات المذكورة، بدأ خبراء ومتخصصو سياسات الاتحاد الأوروبي يتساءلون، هل ثمَّة مزيد من التكامل والتكافل أم منحدر نحو التفكك والانهيار يلوح في أفق القارة العجوز؟
خلافات كلاسيكيّة
تتمثّل كبرى الخلافات الكلاسيكيّة بين أعضاء الاتحاد الأوروبي في انتقادات للاقتصاديات القوية بالاستغلال والنمو على حساب الدول الأكثر فقراً اقتصادياً، ومن جهتها تتهم الدول الغنية الأعضاء الآخرين بالاتكال عليها وتشكيل عالة وعقبة أمام نمو الاقتصاد الأوروبي.
وفي مقدمة الدول صاحبة أضعف الاقتصادات في أوروبا تأتي اليونان ثم إسبانيا، وهما أكثر من عانى خلال الأزمات الاقتصادية التي ألمت بالقارة العجوز خلال العقدين الماضيين، حيث تضررتا على نحو فج انعكس على عجز كبير بالموازنات العامة، وعدم القدرة على سداد الديون.
وتوقّع مراقبون أن تتخلى دول الاتحاد الأوروبي الأخرى عن جيرانها المتخلفين اقتصادياً، لكن الاتحاد خالف التوقعات وصمد أمام ذلك التحدي بإنشاء "صندوق الإنقاذ المالي" عام 2010 برأس مال تجاوز نصف مليار يورو، لينجح بعدها بسنوات في انتشال اليونان من أزماتها الاقتصادية.
وتجددت الأزمة المالية مع تفشي جائحة كورونا وسط إجراءات الإغلاق التام، واتفق الاتحاد الأوروبي حول "خطة الإنعاش الاقتصادي"، والتي تهدف لإعادة الحياة إلى الاقتصاد الأوروبي المتضرر من جائحة كورونا.
غير أن الاتفاق لم يمرّ دون كواليس وصفها مراقبون بأنها كانت "مؤلمة وكاشفة لحجم التشققات داخل جسد الاتحاد، وتلك الخلافات التي استمرت حتى ساعات قبل إعلان التوصل إلى اتفاق".
ومع استمرار طفو تلك الخلافات على أجندة الاتحاد الأوروبي من حين لآخر، ومع صعود تيار اليمين القومي في أروقة السلطة والنخبة الأوروبية، تتجدد المطالبات من شعوب دول مثل ألمانيا وفرنسا وبلجيكا بالتخلي عن دعم الدول الأكثر فقراً، في إطار يصفه خبراء بأنه انتصار للمقاربة الإقليمية الواقعية على حساب القيم الليبرالية.
أزمات ديمغرافية ومخاطر وجودية
مع انخفاض معدلات الإنجاب وسط عزوف الكثيرين عن تكوين أسر نتيجة للقيم المادية الفردانية التي تهمل البعد الروحي والإنساني، يرى علماء الاجتماع بأن أوروبا بصدد أزمة ديمغرافية تهدد وجودها.
بتزايد متوسط الأعمار المستمر وشيخوخة الهرم الاجتماعي في الدول الأوروبية، ينتج تحوّلات ديمغرافية عديدة، حيث ينتج عن ذلك حاجة إلى قوى عاملة شابة بديلة، والتي تضطر الدول الأوروبية إلى فتح أبواب الهجرة من الدول ذات الأعمار الشابة القادرة على العمل والإنتاج.
وفي هذا الصدد يرى عمر عابدين، الباحث المتخصص في علم الاجتماع ودراسات الهجرة، أن الدول الأوروبية تتضرر بشكل بالغ حال عدم استقدامها لأيدٍ عاملة وافدة، حيث أشار إلى دراسات تفيد بأنه يظهر عجز بنحو 30-40 بالمئة من الحاجة إلى القوى العاملة في تلك الدول.
وأردف عابدين في حديث لـTRT عربي، أن الأوساط الأكاديمية وصانعي القرارات في الدول الأوروبية تتخوّف من التحوّلات المجتمعية والثقافية الناتجة عن تغيُّر البنى الاجتماعية بعد استقبال ملايين من اللاجئين الذين لاذوا إلى أوروبا نتيجة الأحداث الدامية والظروف المعيشية الصعبة المتفاقمة خلال العقد الأخير، بالأخص في دول الشرق الأوسط والعديد من الدول النامية الأخرى.
وشددّ المتخصص في دراسات الهجرة على أهمية برامج الإدماج والاستيعاب، وأن دولاً مثل ألمانيا على سبيل المثال أظهرت دراسات قدرتها الاستيعابية الواسعة رغم الارتفاع الملحوظ لعدد المهاجرين فيها.
غير أن الدول الأوروبية ليست كلها تمتلك برامج مماثلة لتلك التي تتبناها برلين، ما ينذر بتغيرات قد تنتج عن انهيار للقيم الأوروبية التي انبنى عليها الاتحاد في أول الأمر.
نزعة انفصالية وليدة فجرتها بريطانيا
فيما اعتبر البعض سابقة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي المعروفة بالـ"بريكسيت" بأنها قد تشجّع دولاً أخرى على المضي في نفس الطريق الذي سلكته المملكة المتحدة.
وبدأت بريطانيا في طريق مغادرة الاتحاد بعد استفتاء شعبي أُجري عام 2016، أظهر رغبة الشعب البريطاني في مغادرة الاتحاد الأوروبي بالتذرّع بالسيادة الوطنية على أراضيها ومياهها الإقليمية واستقلالية قرارها السياسي، حتى غادرت الاتحاد رسمياً مطلع العام الجاري.
يذكر أن استطلاع رأي أُجري عام 2019 بين مواطني الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، كشف عن توجه واسع يفيد بأن الاتحاد من الممكن أن ينحل أو يتفكك في غضون فترة تتراوح بين 10 و20 عاماً.
وكان جزء كبيرة من المشاركين في الاستطلاع لديهم مخاوف حيال موضوعات مثل الاقتصاد، وعدم المساواة، والتهديدات الأمنية، حيث يرون أن هناك احتمالية نشوب نزاعات بين الدول الأعضاء بالاتحاد، وأن أكبر خسارة سيتعرض لها هي عدم القدرة على العمل معاً ضد القوى العالمية مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة.
وجاء ذلك بحسب استطلاع أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية ببروكسل، وشمل 60 ألف شخص من 14 دولة عضوة بالاتحاد.