أهل الجولان بين نزوحين.. نصف قرن من التغييب والقهر (Jalaa Marey/AFP)
تابعنا

يقول أبو محمد: "أنا ابن النكسة التي لم تنتهِ بعد فصولها التي بدأت على يد إسرائيل وأكمل فصلها الأخير نظام الأسد بوحشية فائضة".

نكسة 67.. سقوط مريب

روايات من بقي من أهالي الجولان على قيد الحياة من كبار السن تشكك في ما حصل في الخامس من يونيو/حزيران عام 1967 وهذا السقوط الغريب لوطنهم بهذه السرعة، وكذلك انسحاب الجيش السوري من مواقعه بأوامر من القيادة العليا العسكرية التي كان يترأسها حافظ الأسد بصفته وزيراً للدفاع حينها.

مروان لاجئ من أبناء القنيطرة يعيش في مدينة غازي عنتاب التركية، قال لـTRT عربي: "كانت رواية جدي عن سقوط الجولان تكذّب دائماً ادّعاءات النظام بأنها سقطت عسكرياً، ويقول إن ما حصل كان تسليماً لها مقابل أن يصل الأسد إلى حكم سوريا بالكامل، وهذا ما حصل، وأن المواطنين هربوا بعد سماعهم البلاغ 66 الشهير من الإذاعة السورية الذي يعلن سقوط مدينة القنيطرة بيد الإسرائيليين".

وزير الاعلام السوري حينها محمد الزعبي أعلن في أكثر من لقاء تليفزيوني أن سقوط القنيطرة جاء بعد صدور البلاغ 66 عن وزير الدفاع السوري حافظ الأسد الذي يتضمن سقوط المدينة عسكرياً بلا أي مواجهة.

على أعتاب العاصمة

أدّت حرب عام 1967 إلى تشريد 153 ألف مواطن من قراهم ومدنهم في الجولان، وكان على هؤلاء أن يسكنوا المدن المجاورة على أمل العودة المنشودة التي طمأنهم إليها النظام حينها بأن الاحتلال لن يبقى.. لذلك كانت تجمعاتهم الكبرى في مدن درعا وريف دمشق والأحياء الجنوبية للعاصمة، ولكن هذا الأمل ما زال معقوداً منذ أكثر من نصف قرن من احتلال قراهم وبلداتهم.

الأسوأ من النزوح كان في البحث عن بيت للعائلات النازحة وعن عمل لكل هؤلاء الذين ما كان إلا أن توزعوا حيث يمكن لهم الحصول على رزق أبنائهم، وهكذا أُنشئَت التجمعات في الريف الدمشقي وعلى أطراف العاصمة مما صار يُسمَّى بالأحياء الجنوبية أو أحياء النازحين مثل الحجر الأسود وحجيرة والسيدة زينب والذيابية والسبينة، وبعض التجمعات في مدن المعضمية وقطنا وجديدة عرطوز بريف دمشق، والمساكن العمالية في برزة والقابون، وصولاً إلى المخيمات الكبرى في مخيم درعا البلد.

أما عن حياة هؤلاء ومعاناتهم فيقول خالد الأحمد، المقيم في مدينة شتوتغارت الألمانية منذ عام 2015 بعد مغادرته سوريا، في حديثه لـTRT عربي: "نظام البعث عمل على تغييب صورة أبناء الجولان في إعلامه، وبات الجولان طوال أربعين عاماً في وسائل إعلامه هم فقط سكان القرى الذين عاشوا تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي (مثل مجدل شمس، بقعائا، عين قنية، الغجر)، وأما بقية من نزحوا إلى سوريا فلم يُسلَّط الضوء على معاناتهم وطريقة عيشهم، وغُضّ الطرف عن العنصرية والدونية التي عوملوا بها".

نزوح مكرر.. وأشدّ قسوة

أكثر أبناء الجولان تشاؤماً لم يكن يتوقع المصير البائس لأبناء وأحفاد نازحي عام 1967 الذين تَشرَّدوا في أقاصي الأرض بعد تدمير أحيائهم، ومقتل كثيرين بالرصاص في المظاهرات السلمية التي اجتاحت البلاد عام 2011، أو تحت التعذيب في المعتقلات، أو غرقاً في رحلة الهجرة الكبرى إلى أوروبا.

تعامل النظام مع مظاهرات أهالي الجولان بقسوة شديدة لأسباب عدة يختصرها الدكتور إياس الرشيد، الأستاذ في قسم اللغة العربية بجامعة إسطنبول آيدن، في سببين: الأول "متعلق بنظرة النظام إلى عموم الشعب السوري بعد أن استقرت له السلطة، واطمأن إلى ركون الجميع وعدم شقّ عصا الطاعة، لذلك كان ممنوعاً على أي مجتمع سوري أن يتظاهر ولو كانت مطالبه بسيطة كالخدمات لأنها ستشكّل مع الزمن عقلية جديدة تساهم في العودة إلى العمل الجماعي، والنظام اشتغل لسنوات طويلة على تهشيم المجتمع".

أما السبب الثاني فيكمن في أن "أغلب أبناء الجولان يسكنون العاصمة دمشق، وفيها أكثر من نصف مليون نسمة، ويشكّلون حالة اجتماعية مهمة وكبيرة، وهذا ما رُصد في مظاهرات حي الحجر الأسود ومنطقة السيدة زينب، مما يعني ثورة مؤثرة في مركز النظام، إضافة إلى الشعارات التي رُفعَت وعبّرت عن ذاكرة أراد النظام محوها لكونها تتهمه بتسليم الجولان لإسرائيل وتسلُّم حافظ السلطة نتيجة هذه الصفقة، وهذا ما يُسقِط سياسياً إحدى أهمّ الروافع التي بنى عليها النظام خطابه السياسي في أنه نظام ممانع يريد استعادة الأرض".

مجازر بالجملة

سنوات الجمر في سوريا بين عامَي 2013 و2015 حملت في طياتها عشرات المجازر بحق السوريين على امتداد المناطق الساخنة، وكان نصيب أبناء الجولان الأكبر في ما بينها كونهم لا يعيشون في تجمعات واحدة، فسال دمهم في حمص ودرعا ودمشق وريف دمشق، ولكن المجازر الكبرى في تجمعاتهم كانت مروّعة، فالضحايا بالمئات وبمختلف الأسلحة حتى البيضاء، إذ ذُبحَت النساء والأطفال بالسكاكين في جديدة الفضل والسبينة، وشاركت في ذلك مليشيات مثل "أبي الفضل العباس" و"الدفاع الوطني" مرتكبي مذبحة شارع علي الوحش التي راح ضحيتها فلسطينيون وسوريون، و"شبيحة حي نسرين" الذين ارتكبوا مجزرة حي التضامن.

في منطقة جديدة الفضل بريف دمشق قُتل ما يقرب من 500 شخص بعد حصار وقصف بالمدفعية دام خمسة أيام، تُعتبر من أكبر المجازر في سوريا، وفي بلدة الذيابية بلغت الحصيلة نحو 145 من الرجال والنساء والأطفال، أما مجزرة التضامن فوصلت وفق تقارير أولية إلى 44 شخصاً حسب صحيفة الغارديان التي نشرت فيديو المذبحة التي ارتكبها الضابط أمجد يوسف.

المجزرة الكبرى المزدوجة كما يسمّيها نافع، أحد أبناء منطقة السيدة زينب، هي التي وقعت في في شارع علي الوحش حيث جُمّع الأهالي لخروجهم الآمن بعد حصار طويل لمناطقهم، وهنا فتح عناصر النظام النار على الأهالي عشوائيّاً. يقول نافع الذي يعيش في شمال سوريا حالياً: "لا أرقام موثقة لعدد الشهداء في تلك المجزرة، لكن شهود عيان وأقارب لنا تحدثوا عن سقوط مئات، فيما قالت تقارير إن الأعداد اقتربت من ألف شهيد وجريح، أغلبهم من أبناء الجولان وجيرانهم من اللاجئين الفلسطينيين".

إسقاط الذاكرة الجمعية.. بالتهجير

بعد عشر سنوات من المأساة السورية، هل نجح النظام في إسقاط الذاكرة الجمعية لأبناء الجولان المحتلّ من خلال التهجير والعنف والقتل، وخلق سرديته الجديدة حول الإرهاب والمؤامرة على الدولة السورية، وبالتالي محو ذاكرة الجيل الأول من النازحين عن سقوط موطنهم بالخيانة؟ تساؤل ما زال مطروحاً بقوة لدى عديد من شرائح الشعب السوري. يجيب الرشيد عن هذا التساؤل بأن "النظام لم نجح في الإجهاز على الذاكرة الجمعية، فبعد عام 2011 تشكلت ذاكرة جمعية جديدة هي ذاكرة شهداء الثورة، إضافة إلى المجازر المروّعة التي لا تُنسَى في أحياء النازحين كمجزرة جديدة الفضل في ريف دمشق أبريل/نيسان 2013، ومجزرة شارع علي الوحش في السيدة زينب. ومع كل محاولات النظام تحميلهم أسباب خسارة الجولان وإشعارهم بالدونية أعادت الثورة إليهم الروح، ورغم بؤس المشهد السوري الآن، أعاد أبناء الجولان تموضعهم وقدموا كثيراً من الأدباء والشعراء الصحفيين الذين يساهمون في رسم صورتهم الجديدة وتقديم محنتهم بطريقة تعيد إليهم اعتبارهم".

فلسطينيو الجولان

من بين عشرات آلاف النازحين من الجولان في الخامس من يونيو/حزيران عام 1967 خرج فلسطينيون كانوا لجؤوا إليها نتيجة عدوان إسرائيل وتشريدهم بعد حرب عام 1948، وهؤلاء نزحوا مع إخوتهم السوريين إلى مناطق واحدة، وبعضهم عاش في مخيمات خان الشيح بريف دمشق -دمّره النظام- وكذلك أجزاء من مخيم اليرموك.

المحامي الفلسطيني أيمن أبو هاشم المنسّق العام لتجمع "مصير" أورد في حديثه لـTRT عربي أعدادهم وحقوقهم القانونية في سوريا: "فلسطينيو الجولان الذين فروا سنة 1967 لا تتجاوز أعدادهم 15 ألف شخص، سكنوا مخيم خان الشيح ومناطق جنوب دمشق سبينة وجرمانا والحجر الأسود وبعض مناطق مخيم اليرموك وتَعرَّضوا لمجازر في علي الوحش والسيدة زينب وسواهما من أحياء جنوب العاصمة، ومنذ أن دخلوا سوريا لم يعاملهم النظام معاملة فلسطيني 1948، فحرمهم حق التملُّك والتوظيف، وحتى عندما أُعلنَ تأسيس الجامعات الموازية كان عليهم أن يدفعوا رسوماً مختلفة للتسجيل فيها".

TRT عربي