غزة ـــ هناك على تلك الحدود التي تفصل قطاع غزة عن العالم، هناك حيث تتجلى للفلسطيني منافذ اتصاله بالآخر، وتتبدى له الحرية في طابع مغايرٍ، حيث تلتفت الذكريات لترسم حداً فاصلاً ما بين الصعب والأصعب، فيقف حائراً ما بين الوجود واللا وجود، هناك، وبعد رحلة معاناةٍ عايشتها السيدة العجوز (س.ت) وهي ترافق ابنتها المريضة (ر.ت)، في رحلة علاج حتمية إلى إحدى الدول العربية، تقابلنا العجوز الطيبة التي تتكأ على عكازها بابتسامة بشوش، مرحّبةً بنا، ساردة علينا معاناتها على طريق العبور حتى العودة، أخيراً، إلى القطاع المحاصر.
تقصّ علينا العجوز التي يتبدى عليها التعب قصتها، إذ وصلت أمس إلى القطاع، وكانت تركته مع أول أيام شهر رمضان المبارك، وتروي لنا رحلة ثلاثة أيام كاملة من التعب الشاق، أمضتها على الأرصفة والطرقات في انتظار أن تصل بوابة المعبر الذي يفصلها عن ديارها، فتكمل ما تبقّى من الشهر الفضيل وسط أهلها، وأحبتها وجيرانها، وتحمد الله على ما أكرمها به.
زواد من أجل الرحلة الصعبة
كانت البداية يوم الثلاثاء الماضي، بدأت رحلة العودة، مساءً، وكان كل ما بحوزتها هي وابنتها قليل من الجبن والخبز، ابتاعتاه كي تتزوّدا به على السحور لتتمكنا من أداء فريضة الصوم، وسط درجات حرارة مرتفعة، شهدها الطقس، أخيراً، وزجاجة من الماء المثلج قصدا شراءها كي لا تخذلهما وسط هذه الحرارة المرتفعة.
وبعد مسافة طويلة وصلتا إلى المعدية الثالثة فجراً من يوم الأربعاء وبقيتا في انتظار عبور قناة السويس حتى عصر الأربعاء، أما منطقة "المعدية" حيث لا يوجد إلا مسجد صغير عفت عليه رياح الزمن، والأحداث الأليمة في هذه المناطق، فأصبح خالياً كالأشباح، تحاول العجوز التخفيف من تعبها، فتتكئ على جداره جالسة تروّح عن نفسها هاربة من لظى لهيب الشمس التي أحرقت الحافلة التي استقلتاها.
مكثتا حتى انتظار أمر العبور، حيث لا خدمات، ولا أماكن للذود بها من تعب الأيام الطوال، ولم تأذن لحظة العبور إلا بعد مرور 12 ساعةً كاملة، أي في الساعة الثالثة مساءً، وقت الذروة، واشتداد أشعة الشمس، فاستقلتا حافلة، تقول إنها "من نوع ميكروباص 12 راكباً، ركب معنا فيها امرأة وطفلتاها الصغيرتان، وكان قد اشتدت عليهما حرارة الشمس؛ لكن إحدى الطفلتين لم تستطع الصمود، فما كان إلا أن فقدت الوعي، وحاولنا أن نوقظها بالماء المثلج الذي جلبناه من القاهرة ولكنه كان قد برد وأصبح ساخناً".
أزمة المعدية
معاناة المعدية هذه، ليست بالجديدة؛ بل إن مناشدات عديدة خرجت لتصرخ في أصحاب القرار، للالتفات إليها، وحماية المسافرين من وطأتها، منذ أكثر من عام.
وقد نشر الحقوقي الفلسطيني مصطفى إبراهيم، وقتها، مناشدة على حسابه في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، جاء فيها "وصلتني مناشدات من المسافرين من أهل #غزة الذين ينتظرون على المعدية منهم مرضى وكبار في السن وينتظرون ساعات طويلة وأياماً للعبور والعودة إلى غزة وأوضاعهم صعبة جداً... وهم يناشدون السلطات المصرية والقيادة الفلسطينية للمساعدة" لكن يبدو أن مناشدته ومناشدة الكثيرين غيره لم تطرق باب المعنيين بعد.
طريق تقسو بدموية داعش
لم يكن أحدٌ ممن في الحافلة يتحمل هذه الحرارة الشديدة، فكان أن أنزل الله سكينته على أحد الضباط الذي سمح لحافلة العجوز ومن معها بأن تكون أول الحافلات التي تعبر المعدية، فمروا برفقة دبابة مصرية، وجنود من الجيش الذين يرافقون المسافرين حماية لهم من بطش داعش وتهديداته، ومن الإرهابيين الذين ينغصون أمن سيناء.
حواجز لا تنتهي
لم تكد ترتاح، حتى طُلبت منها العودة لمتابعة الطريق، تمر على حواجز كثيرة، تقول "لكثرتها، عددتها، كانت 24 حاجزاً". في مشهد مكرر، يتم تفتيش حقائب كل الموجودين، مراراً، وبعثرتها، تحسباً، وتأهباً أمنياً، ثم يُترك أمر تنظيمها ثانية لأصحابها".
كانت حرارة الشمس تشتد ويقارب اليوم على نهايته، تقول "تُركنا لنفطر بما تبقى لنا من زاد قليل من الجبن والخبز، قبل أن ننتظر أمراً لمواصلة الرحلة، ويمنع علينا الخروج من الحافلة" وقد ظللن يبتن في العراء حتى اليوم الثاني.
في اليوم التالي، ومع تعب الطريق، ونفاد مخزون الزاد، أُجبرت العجوز على قطع صيامها، لتشرب قليلاً من الماء، قبل أن تخور قواها، شاعرة بالبؤس والحزن الشديدين لأنها لم تستطع الصوم، فيما كانت الطفلتان إلى جوارها في حالة شبه إغماء نتيجة ارتفاع درجات حرارتهما بفعل الجو والتعب الشديدين على مدار الأيام الثلاثة الماضية.
الحاجز الأخير
هناك من البعيد، يظهر أخيراً، معبر رفح، ويلوح القطاع، على مد النظر، فتسجد العجوز لله شاكرة، متمنية ألّا تضطر إلى العودة إلى هذا الطريق، طريق الآلام، ولا يجبرها على ذلك إلا وطأة المرض الذي ينخر أبناءها، كما ينخر القطاع المحاصر منذ سنين.
قصة هذه السيدة من بين آلاف القصص التي مرت على "المعدية" أملاً في الوصول إلى بيتها في قطاع غزة؛ لكن هذه السيدة هي الوحيدة التي امتلكت الجُرأة للحديث إلينا عن جحيم ما يراه الغزيون على هذه الطريق، حيث يُجبَرون على كتم الغيظ والتزود بالصبر على كل الألم، وهو الخيار الوحيد بالنسبة إليهم، قابلنا العديد ممن مروا بهذه التجربة لكنهم أعرضوا عن الحديث؛ خوفاً من حرمانهم من السفر عبر نافذة الحرية الوحيدة المُعبّدة بالآلام.
يُذكر أن طريق المعدية هذا يقطع قناة السويس، وبات الممر الوحيد المخوّل للغزيين تجاوزه للوصول والتواصل مع العالم الآخر، خارج حدود حصارهم.
ينتظرون هناك لساعات طويلة من دون أي ساتر أو حماية من حر أو شتاء حتى العبور إلى شمال سيناء، وليس لهم من خيار آخر أكثر أمناً وأقل وقتاً وجهداً، بعد قرار إغلاق جسر السلام منذ قرابة خمسة أعوام، وذلك خشية استهدافه في تنفيذ عمليات إرهابية في مجرى قناة السويس بمدينة القنطرة شرقاً.
وتدأب إدارة تأمين المجرى الملاحي هناك -وهي من الجيش الثاني الميداني- على إجراء عمليات تفتيش طويلة، ولأكثر من مرة، قبل أن تسمح بالدخول إلى تلك العبارة، وتستمر مقصلة الانتظار، والوقت الذي هتك الكثير من الأجساد المنهكة على تلك الحدود، على الرغم من كل المناشدات الإنسانية.