يضع الإعلام الغزّي نصب عينيه أن يكون أداة للصمود والمقاومة، جنباً إلى جنب مع شعبه ومقاومته، فلم يقف القصف الإسرائيلي واستهدافه للمكاتب الصحافية والإعلامية أمام مواصلة الإعلاميين والصحافيين لعملهم في نشر الحقيقة، وكشف ممارسات الاحتلال الغاشم الذي لا يعرف قوانين ولا أخلاقاً ولا أي أعراف.
غزة لبت نداء الأقصى
ما إن خرج المقدسيون هاتفين "مشان الله يلا يا غزة" مستغيثين بالشق الثاني من الوطن، حتى خرجت مقاومة غزة مؤيّدة ومبارَكة من شعبها لتلبية نداء القدس والمسجد الأقصى، واليوم يعيش القطاع على وقع حرب ضروس، خرج فيها الاحتلال الإسرائيلي عن وعيه وعن كل معاني الإنسانية والأعراف والقوانين الدولية بعدما فاجأته المقاومة برد غير متوقع.
مع مساء اليوم الثاني من هذا التصعيد الذي يشتعل على وقع الحرب، وصلت قيادات الاحتلال نحو الخواء، بعد ضربات المقاومة الموجعة، فتحولت، سريعاً، نحو قصف أبراج سكنية مدنية آمنة، وهذا حيث انتهى في حربه على غزة عام 2014، حينما تعمّد ضرب الأبراج السكنية الآمنة، لترويع السكان والضغط على المقاومة وتركيعها.
استهداف للصحافيين والمدنيين وتكميم للحقيقة
البداية، كانت مع برج "هنادي" وهو برج سكني ضخم يقطنه نحو 80 أسرة، كما يحتوي على بعض المؤسسات الإعلامية وغير الإعلامية الأخرى. الضربة الثانية كانت لبرج "الجوهرة"، وهو برج ضخم يقع وسط مدينة غزة، يضم عدداً كبيراً من المؤسسات والشركات الإعلامية ومكاتب أخرى متنوعة لمحامين وشركات دعاية وإعلان واتصال وتواصل، وفيه صحيفة فلسطين أيضاً.
بدأ الأمر بقصف البرج بصاروخ تحذيري، والتواصل مع بعض المؤسسات لإخلال البرج، وإخلاء الأماكن السكنية الواقعة في محيطه، لتدبّ حالة من الهلع والرعب، ممزوجة بحالة من الحزن المفرط التي امتدت إلى غير العاملين في هذا البرج، فقد عمّت وسائل التواصل الاجتماعي حالة من الصدمة، أولاً، للجوء الاحتلال إلى منهجية إسقاط الأبراج السكنية الآمنة. ومن جهة أخرى ساد حزن شديد على قصف هذا البرج على وجه التحديد، وكتب العديد من الناشطين ذكرياتهم في هذا البرج الذي تدربوا أو عملوا فيه أول حياتهم المهنية.
بعد ساعات من إخلاء البرج، وتهجير السكان القاطنين على مقربة منه، بعضهم انتظر في الشارع حتى يتمّ الأمر ويتمكنوا من العودة إلى بيوتهم، لكن غطرسة الاحتلال وتعنّته وإصراره على حربه النفسية على الغزّيين الآمنين، وعجزه عن إحداث ولو نصراً مزيفاً في القطاع، جعلته يؤجّل الأمر لبضع ساعات، فتم الأمر بعد الثانية من صباح اليوم الموالي، وعلى فترات. لكن أعمدة البرج بقيت عصية وظل البرج شامخاً حتى النهاية، كما ظل العاملون فيه شامخين أيضاً، فلم تتوقف رسالتهم الإعلامية على اختلاف طرق تقديمها ولو للحظة واحدة منذ أن أفرغوا مكاتب عملهم.
ويُذكر أن طائرات الاستطلاع قد قصفت بصاروخ تحذيري برجاً ثالثاً هو برج "الشروق"، الذي يقع وسط منطقة الرمال المكتظة بالسكان والبنايات والمحالّ التجارية، تمهيداً لقصفه. وهذا البرج هو الآخر يضم عدداً من المكاتب والمؤسسات الإعلامية والصحافية.
مواصلة عملهم من الشارع ومن بين الركام المتهالك
صالح الناطور مراسل التلفزيون العربي واحد من الإعلاميين الذين فقدوا مكاتبهم، حيث مقر التلفزيون العربي كان في برج "الجوهرة" الذي لم تتركه آلة الحرب الإسرائيلية إلا بعدما صار شبحاً مهدداً بالوقوع، وقد أصيب صالح بصدمة من خبر إخلاء البرج تمهيداً لقصفه، وقد بقي كما أوضح في حديث خاص مع TRT عربي ينظر من الشارع إلى البرج وهو يُقصَف مرة بعد مرة، ذلك المكتب الذي يجسد له أكثر من كونه مكتباً للعمل، "مكتب بتقضي فيه أكثر من نصف يومك، بتبع الأخبار، وتقضي فيه وقتاً أكثر من الذي تقضيه في بيتك، وتقضي مع زملائك في العمل وقتاً أطول ممَّا تقضيه مع عائلتك".
أُجبر صالح وبقية طاقم العمل على مواصلة عملهم وأداء مهامهم من الشارع، في أي مكان يتاح لهم، من بين الركام المتهالك، أو من سيارة البث، حتى ولو كان مهدداً أكثر، وذلك كي تبقى رسالتهم الإعلامية مستمرة من دون توقف ولو للحظة.
يذكر صالح وعيناه مغرورقتان بالدموع كيف وصل إلى بيته بعد غياب نحو 48 ساعة كان يواصل فيها العمل وتغطية الأحداث في غزة، ليجد طفله الصغير يحجم عن الركض لاحتضانه كعادته ملتزماً وضعَ يديه على أذنيه كي لا يسمع أصوات القصف والانفجارات القوية التي تهز القطاع بين الحين والآخر، فيما حاول بعد ذلك أن يوفر أبسط احتياجات عائلته، واحتضانهم جميعاً وتخفيف روعهم من القصف المستمر، قبل أن يتركهم من جديد لمتابعة تغطية الأحداث من أي مكان يسمح له بذلك، حتى وإن كان هذا المكان مُهدَّداً هو الآخر.
الرسالة الفلسطينية الإعلامية مؤثرة جداً، والاحتلال يخشى هذه الرسالة، ويحاول بكل الطرق أن يطمس الحقيقة
محمد أبو قمر نائب مدير منتدى الإعلاميين، وقف عاجزاً هو الآخر أمام خبر إخلاء البرج تمهيداً لقصفه، وقد وجد أبو قمر نفسه وبقية طاقم العمل في منتدى الإعلاميين في صدمة أكبر من غيرهم، فكما يقول في حديث خاص مع TRT عربي: "نحن كمنتدى إعلاميين فلسطينيين هدفنا أساساً الدفاع عن الحريات الإعلامية، وجدنا أنفسنا في قلب هذا الاستهداف، وقد تم شل عملنا بالكامل من خلال قصف المكتب حيث كل الخدمات التي نقدمها للصحافيين، سواء من خلال التدريب أو حتى الإسناد، باتت خارج التغطية في هذا الوقت، ونعمل على البحث عن أماكن بديلة لتغطية العدوان على قطاع غزة".
ويؤكد أبو قمر أنه على الرغم من كل الممارسات القمعية التي ينتهجها الاحتلال، ومن تركهم من دون مكاتب ومقرات عمل فإنهم مستمرون في تغطيتهم ورسالتهم، موقنون بأن "الرسالة الفلسطينية الإعلامية مؤثرة جداً، والاحتلال يخشى هذه الرسالة، ويحاول بكل الطرق أن يطمس الحقيقة الفلسطينية، وقد شهدنا في كل الحروب والأحداث الماضية وفي أي تصعيد استهداف الاحتلال الصحافيين ومؤسساتهم بشكل مباشر، ولكن كل التجارب السابقة علمتنا أن الصوت الإعلامي الفلسطيني قوي، ويعمل في كل الظروف، وعلى الرغم من كل الظروف وقصف مكاتبنا نجد أنفسنا نستمر في الرسالة الإعلامية، وتوصيل الحقيقة إلى العالم كله، خاصة تلك الممارسات التي تُمارَس على الصحافيين لكتم صوت الحقيقة".
وناشد أبو قمر في نهاية حديثه مع TRT عربي كل المنظمات والهيئات الحقوقية والتي تُعنَى بحريات وحقوق الإعلاميين والصحافيين أن تقف عند هذه الممارسات، وأن يتم محاسبة الاحتلال على جرائمه المختلفة.
هذا وأدانت نقابة الصحافيين الفلسطينيين قصف برج "الجوهرة" الذي يُعرَف بعمارة الصحافة، وعدّته "دلالة قاطعة على مسعى الاحتلال لإسكات الأصوات الحرة وعدسات الكاميرات التي تعرّي جرائم الاحتلال أمام العالم"، ووجهت تحية إكبار إلى كل الصحافيين الفلسطينيين، ووسائل الإعلام الفلسطينية والعربية الفاعلة، ودعت إلى استمرار وتكثيف التغطية لهذه الأحداث المهمة، مع ضرورة اتباع إجراءات وسبل السلامة المهنية. كما ندد الاتحاد الدولي للصحافيين من جهته أيضاً بالاستهداف، ودعا إلى تحرك دولي فوري لمحاسبة إسرائيل على استهدافها المتعمَّد للصحافيين.