أَحيت التطورات الأخيرة للقاحات "كورونا" التي أعلنت عنها شركات الأدوية العالمية، آمال البشرية بالقضاء على الفيروس التاجي والعودة إلى حياة طبيعية بعد كابوس الجائحة الطويل، ويوجد حالياً 48 لقاحاً في مرحلة التجارب السريرية، 11 منها بالمرحلة الثالثة والأخيرة بانتظار حصولها على تراخيص نهائية من السلطات الصحية.
أمام هذه المستجدات المبشّرة التي تأتي بعد طول انتظار، برز تنافس قويٌّ بين شركات اللقاحات الدولية، فبعدما كانت في سباق مع الزمن من أجل تطوير لقاح فعّال ضد كوفيد-19، تدخل اليوم منافسةً فيما بينها من أجل الحصول على أسواق لتسويق منتجاتها، وعلى صعيد ثانٍ تتسابق دول العالم على الاستفادة من الدفعات الأولى من اللقاح والحصول على الكمية الكافية منه لمواطنيها.
الدول العربية انخرطت بدورها بهذا السياق، مسارعةً الخطى للتحضير لمرحلة التلقيح، إذ كشفت مجموعة من دول المنطقة عن استراتيجياتها للحصول على اللقاح وتطعيم مواطنيها، ومنها من أبرمت اتفاقيات مع شركات ومختبرات دولية ومنها من دخلت شراكات دولية للحصول على اللقاح فيما يلف الغموض خطط أخرى لتدبير الموضوع.
الدول العربية واللقاح
ويُنتظر أن يطلق المغرب خلال الأسابيع القادمة حملةً مكثّفة للتلقيح بعدما باشرت السلطات إجراءات انطلاق العملية، إذ كان البلد سبّاقاً في إبرام عقود شراكة مع مجموعة من الشركات، خصوصاً شركة "سينوفرام" الصينية التي ستمنح المغرب 10 ملايين جرعة. كما كشفت السلطات الصحية الجزائرية أنها ستقتني اللقاح من عدة مختبرات لصعوبة استجابة جهة بمفردها لكل الطلب العالمي واستيفاء الشروط التي تضعها الحكومة.
من جانبها، أعلنت قطر والسعودية والكويت والإمارات وعُمان أنها حصلت أو ستحصل على الدفعات الأولى من اللقاح الشهر الجاري، إذ وقّعت قطر اتفاقية مع شركتَي "مودرنا" و"فايزر" لتزويدها باللقاح، والأمر نفسه بالنسبة إلى الكويت، فيما قالت عُمان إنها حجزت مليوناً و800 ألف جرعة من عدد من الشركات المصنعة.
وبالسعودية أوضح استشاري الأحياء الطبية والأمراض الوراثية د. عارف العمري بتصريحات صحفية أن لقاح كورونا وصل إلى المملكة وأنه جاهز للاستخدام، فيما أجازت الإمارات الاستخدام الطارئ للقاح الصيني لإتاحته أمام الفئات الأكثر مواجهة للفيروس وفئات أخرى من المجتمع، بعد أن احتضنت تجارب سريرية كبيرة.
بالمقابل لم تكشف بعد حكومات لبنان والأردن وموريتانيا ومصر عن خطتها للتلقيح، مكتفية بالإشارة إلى أنها تتواصل مع الشركات المصنّعة لتوفير اللقاح ببلدانها خلال الربع الأول من 2021 بموعد أقصاه نهاية مارس/آذار المقبل.
مدير مختبر الفيروسات بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء مصطفى الناجي، ثمّن سعي البلدان العربية وانخراطها في إجراءات الحصول على اللقاح، مؤكدّاً أن تلقيح المواطنين هو السبيل الأوحد لتجاوز وباء كورونا، ولفتَ إلى أنّ دول العالم بدأت تدابير التلقيح والاختلاف الوحيد بينها هو نوعية اللقاح المستعمل.
وأرجع خبير الفيروسات تعدُّد اللقاحات المقترحة أساساً إلى عوامل علمية، أمام كثرة المختبرات الطبية التي سخّرت جهودها طيلة الأشهر الماضية لإيجاد لقاح "كورونا"، وأيضاً الشراكات التي تبرمها الدول وعدم قدرة مختبر أو شركة أدوية واحدة على تلبية كل الطلب العالمي، مشيراً إلى أن دولاً عربية لجأت إلى اقتناء اللقاح من شركات متنوعة حتى تحصل على جرعات كافية من مصادر مختلفة.
هذا وتبقى المعطيات التفصيلية التي تقدّمها الحكومات العربية حول تدبيرها لخطط التلقيح هزيلة أمام شحّ المعطيات المتوفّرة أو ضبابيتها. في هذا الصدد قال علي لطفي رئيس الشبكة الحقوقية: "من أجل الحق في الصحة والحياة"، متعجباً من أن الغموض يرافق موضوع اللقاحات بالمنطقة العربية وشمال إفريقيا، فمعظم البلدان لم تكشف عن تفاصيل حملتها التلقيحية، في ظل ضعف تواصل المسؤولين الصحيين حول الموضوع مع الرأي العام بالشكل المطلوب حول استعدادات السلطات الصحية لتنظيم العملية أو التاريخ الفعلي لانطلاقها.
وتابع المتحدث في تصريح لموقع TRT عربي بأن "عدم الوضوح يزكي أزمة التواصل التي ميّزت الفترة الماضية بالمنطقة"، محذّراً من أن هذا الوضع "يفسح المجال لتناسل الشائعات والأخبار غير الصحيحة والعلمية التي من شأنها التأثير على تجاوب المواطنين مع عملية التطعيم".
البلدان الفقيرة واللقاح
إلى جانب تدبير استراتيجية التطعيم رافق التطورات الأخيرة نقاشُ استفادة البلدان الفقيرة من اللقاح، فإذا كانت الدول الغنية أو ذات الدخل المتوسط بالمنطقة ضمنت وصولها إليه أو باشرت إجراءات حصولها عليه فإنّ الدول الأكثر فقراً التي تعيش حروباً وصراعات داخلية مثل اليمن وليبيا وسوريا تنتظر ما قد تجود به مبادرات المنظمات الدولية، بتمكينها من جرعات ترياق كوفيد-19، أو أقلّه انتظار بدء التوزيع الفعلي ووضوح أسعار اللقاحات، فهذه الأخيرة (الأسعار) عامل مؤثر بعملية الاقتناء، بالنظر إلى ضعف إمكاناتها المادية والتنافس الكبير على اللقاح من الدول الثرية التي يبدو أنها في طريقها إلى الاستئثار بأكثر من نصف الإنتاج العالمي.
وحذرت منظّمة "أوكسفام" في مقال لها من أن الدول الغنية التي تمثل 13% فقط من سكان العالم قد حصلت بالفعل على أكثر من نصف الجرعات الموعودة (51%) من المرشحين الرئيسيين لإنتاج لقاح كورونا، خلال تحليلها صفقات شركات الأدوية ومنتجي اللقاحات مع دول العالم من أجل اللقاحات الخمسة الرائدة.
في السياق ذاته قالت منظمة "هيومان رايتس ووتش" في تقرير حديث إن تسعير اللقاح يمكن أن يكون عائقاً كبيراً أمام الحصول عليه بشكل شامل وعادل في عديد من الأماكن، موضحةً أنّ اللقاحات لن تتاح للجميع بأسعار معقولة إلا إذا كانت مجانية. ودعت إلى "أن تضمن الحكومات استخدام الأموال العامة للمنفعة العامة وليس لتحقيق الأرباح الخاصة.. وإلزام الشركات بتبنِّي تسعير شفاف يجري التحقق منه من خلال تدقيق طرف ثالث".
وكشفت مارغريت وورث، باحثة أولى في "هيومن رايتس ووتش" وإحدى صائغتَي التقرير: "لا تُمكن محاربة وباء عالمي بالسماح بأن تكون اللقاحات الممولة من القطاع العام بِيَد من يدفع أكثر وبالسعر الذي تحدده شركات الأدوية. عندما يُعثر على لقاح آمن وفعال يجب أن يتاح وبأسعار معقولة للجميع في كل مكان".
من جانبه، قال علي لطفي إنه يجب على جميع البشرية أن تناضل من أجل مجانية اللقاح أو أن يكون بأثمنة تناسب كل بلد، مورداً أن هذا الفيروس لم يختر دولة من دون أخرى أو طبقة اجتماعية بل كان مدمّراً للجميع في دول العالم التي لم تكن بمنأى عن الفيروس وأضراره الخطيرة".
وتابع لطفي في تصريحه بأنّ اللقاح يجب أن يكون لقاحاً للإنسانية، محذّراً من خطورة أن يتحول إلى سلعة مثل باقي السلع تخضع لنظام العرض والطلب بالأسواق، مشيراً إلى أن هذا ليس في صالح هذه الخدمة الطبية التي انتظرتها البشرية بكثير من الصبر والأمل، إذ يجب أن تنجح الدول جميعها في إلحاق الهزيمة به.