شهد القرن الحادي والعشرون ولادة عديد من الابتكارات التقنية التي تساهم بتغيّر نمط الحياة بشكل جذري. ورغم أن الاختراقات الكبرى في العلوم لم تر النور بعد، فإن كثيراً من التقدّم يحدث، وهو ما نراه مع "واجهات الدماغ-الحاسوب" (Brain-Computer Interfaces) أو ما يُعرف اختصاراً بـ"BCI" التي قد تمنح المصابين بالشّلل القدرة على الكلام مجدّداً.
لغز الدماغ يقدّم الحل
يجري تعريف "واجهات الدماغ-الحاسوب" أو "واجهة الدماغ الحاسوبية" بأنها الأجهزة التي تمكّن مستخدميها من التفاعل مع أجهزة الحاسوب عن طريق نشاط الدماغ فقط.
مؤخراً، تمكن العلماء من قراءة أفكار شخصَين مصابَين بالشّلل وتحويل أفكارَهما إلى كلام ممّا يُسهِّل تواصلهما مع محيطهما من خلال إدماج تقنية BCI في أنظمة الذكاء الاصطناعي (AI)، حسبما نُشِر في دراستين منفصلتين في مجلة Nature في عددها الصادر في 23 أغسطس/آب الماضي.
قبل الإسهاب في توضيح عمل الـ BCI، لا بد من توضيح بعض المبادئ البسيطة عن كيفية عمل الدماغ البشري المتعلّق بالتقنية إذ ينقسم الدماغ البشري إلى أجزاء عدة، وفيما يتعلق بموضوع الدراسة هما جهازان مسؤولان، الأول هو "الجهاز الحوفي" والثاني "والقشرة المخية الحديثة".
يعتبر الجهاز الحوفي المسؤول عن الوظائف الضرورية للجسم كَتلك المتعلقة بالبقاء على قيد الحياة مثل الأكل والتكاثر، أمّا القشرة المخية الحديثة فمسؤولة عن الوظائف المنطقيّة التي تجعلنا نتقن اللغات والتكنولوجيا والأعمال التجارية والفلسفة وغيرها من الوظائف.
تحتوي الأدمغة البشرية على نحو 86 مليار خلية عصبيّة كل واحدة منها مرتبط بشكل فرديّ بالخلايا العصبية الأخرى عن طريق الموصلات المسمّاة المحاور العصبية.
عند ممارسة أي نشاط فإن الخلايا العصبية تكون نقطة البدء في انطلاق ذلك النشاط. وينفذ هذا العمل إشارات كهربائية صغيرة تنطلق من الخلايا العصبية إلى أعضاء الجسد المقصودة بسرعة هائلة، الأمر الذي مكّن بعض العلماء من قياس تلك الإشارات وتحليلها بطرق مختلفة، كتخطيط كهربة الدماغ (EEG)، أو التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI).
خوارزميات للحديث
استغلّ الباحثون معارفهم السابقة الذكر حول وظائف الدماغ وطريقة عمله في تطوير تقنية واجهات الدماغ-الحاسوب، التي قد تعيد بعض الوظائف المفقودة كالكلام إلى المصابين بالشلل.
في الدراسة الأولى، أجرى الباحثون عملية جراحية على بات بينيت البالغ من العمر 67 عاماً، والذي يعاني من (مرض الخلايا العصبية الحركية)، المعروف أيضاً باسم التصلب الجانبي الضموري، وهي حالة مرضية تسبب فقداناً تدريجياً للتحكم في العضلات، مما يؤدي إلى صعوبات في الحركة والتحدث.
زرع العلماء مصفوفة من أقطاب السيليكون الصغيرة في القشرة الدماغية للمريض وبالضبط في المنطقة المسؤولة عن الكلام.
ثم درّبوا خوارزميات "التعلم العميق" على 125 ألف كلمة للتَّعرف على الإشارات الصادرة من دماغ بينيت عندما يفكر في التحدث، وتحويل تلك الأفكار إلى كلمات.
تمكنت BCIs من فك تشفير الكلام بسرعة تتراوح بين 62 و78 كلمة في الدقيقة، على التوالي، علماً أنّ المحادثة الطبيعية، بين البشر الأصحّاء، تجري بمعدل 160 كلمة في الدقيقة تقريباً.
وبالنسبة إلى المفردات المكوّنة من 50 كلمة متواصلة، عملت واجهة BCI أسرع بمقدار 3.4 مرة من واجهة BCI السابقة التي طورها الفريق نفسه وبِمعدل خطأ في الكلمات قدره 9.1%.
وقال فرانسيس ويليت، عالم الأعصاب في جامعة ستانفورد، وأحد المشاركين في الدراسة في مؤتمر صحفي: "من الممكن الآن أن نتصور مستقبلاً أن إمكاننا استعادة المحادثة السَلِسة لشخص مصاب بالشلل، وتمكينه من قول ما يريده بحرية وبدقة عالية بما يكفي لفهمه بشكل موثوق".
بالصوت والصورة.. آن تستعيد كلامها
في دراسة ثانية منفصلة، عمل إدوارد تشانغ، جرّاح الأعصاب في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، وزملاؤه مع امرأة تبلغ من العمر 47 عاماً تدعى آن، فقدت قدرتها على التحدّث بعد إصابتها بجلطة في جذع الدماغ منذ 18 عاماً مضت.
استخدم الفريق الثاني نهجاً مختلفاً عن نهج الفريق الأول، إذ وضعوا مستطيلًا بسمك الورق يحتوي على 253 قطباً كهربائياً على سطح قشرة الدماغ، أي بلا تدخل جراحي.
ودرب الفريق خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتعرّف أنماط نشاط دماغ آن المرتبطة بِمحاولاتها نطق 249 جملة باستخدام مفردات مكونة من 1024 كلمة. أنتج الجهاز 78 كلمة في الدقيقة مع متوسط معدل خطأ في الكلمات يبلغ 25.5%.
عندما تفكر آن في الكلام، تعترض الأقطاب الكهربائية إشارات الدماغ تلك التي لولا السكتة الدماغية، لوصلت إلى عضلات شفاه آن ولسانها وفكها وحنجرتها، وأنتجت كلاماً وتعابير وجه.
ربط كابل بمنفذ مثبت على رأس آن، وأوصلت الأقطاب الكهربائية بمجموعة من أجهزة الكمبيوتر. وبدلاً من تدريب الذكاء الصناعي على تعرُّف الكلمات بأكملها، أنشأ الباحثون نظاماً يفك تشفير الكلمات من مكونات أصغر تسمى "الفونيمات" (وحدات صوتية). بمعنى تجزئة الكلمة إلى أصواتها، على سبيل المثال، تحتوي كلمة "Hello" على أربعة وحدات صوتية: "HH" و"AH" و"L" و"OW".
باستخدام هذا الأسلوب، يحتاج الكمبيوتر إلى تعلم 39 صوتاً فقط لفك تشفير أيّ كلمة باللغة الإنجليزية، وقد أدى هذا إلى تحسين دقة النظام وجعله أسرع ثلاث مرات.
بعد ذلك ولِتجميع خطاب آن، ابتكر الفريق خوارزمية لتجميع الكلام، ومن ثم طوروا نظاماً صوتياً مطابقاً لصوتها الحقيقي الذي أخذوه من تسجيل صوتي لها وهي تتكلم خلال حفل زفافها قبل إصابتها، مما جعل الصوت الصادر عن الجهاز يشبه صوتها تماماً.
لإضافة مزيد من الواقعية، أنشأ المختصون صورة واقعية متحركة للمريضة، تتفاعل عضلات وجهها وحركة فمها مع الجمل التي تود المريضة التحدث بها، مع إبداء كل المشاعر التي ترافق الكلام من فرح أو حزن أو تعجّب.
بمعنى، أنه بمجرد تفكير المريضة بقول كلام ما، سوف تتكلم صورتها الحاسوبية بهذا الكلام وبصوتها الحقيقي.
لتحريك الصورة الرمزية للمريضة لجأ الفريق إلى مساعدة برنامج يحاكي حركات عضلات الوجه، طوِّرته Speech Graphics، وهي شركة تصنع رسوماً متحركة تعتمد على الذكاء الصناعي.
ابتكر الباحثون عمليّات تعلُّم آلي مخصّصة سمحت لبرنامج الشركة بالتشابك مع الإشارات المرسلة من دماغ آن في أثناء محاولتها الحديث وتحويلها إلى حركات على وجه الصورة الرمزية الخاصة بها، مما يجعل الفك مفتوحاً ومغلقاً، والشفاه بارزة واللسان يصعد وينزل، وكذلك تعابير الوجه الدالّة على السعادة والحزن والمفاجأة.
بعد هذه التجارب الناجحة يسعى الباحثون للحصول على موافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) بغية الاعتراف بهذه التقنية الجديدة، مع طموحهم إلى تطويرها بحيث لا يلزم أن يكون بين المريض والحاسوب اتصال سلكي.
يُذكر أن الطريقة السابقة لفهم كلام عديمي النطق كانت عبر أجهزة تتتبَّع حركة العين وهي التقنية التي كان يعيبها بطء نقل أفكار المصاب بالشلل، وعدم الدقة في تحويلها إلى كلمات.