إبّان جائحة كورونا، شغل بال الحكومات والمواطنين همّان رئيسيان، تعلّق أولهما بِسرعة تفشي الوباء وفَتكه بالناس، والآخر يخص سرعة إيجاد علاج أو لقاح للفيروس.
ولعلَّ تلك الفترة كانت المرة الأولى التي ينتاب فيها الفضول غير المختصين في العلوم، حول كيفية تطوّر اللقاحات وأسباب تأخر طرح الأدوية بعد سنوات من توصل المختبرات إلى تركيبتها الكيميائية.
دون الخوض في تفاصيل صناعة الأدوية، يمكن القول إنّ المرحلة الأصعب التي التي تواجه الشركات المصنّعة للأدوية هي المرحلة التجريبية على البشر، أو ما تُعرف عمليّاً بـ"الدراسات السريرية".
وتُعد هذه الخطوة في سلسلة الصناعة الدوائيّة، الجزء الأكثر تكلفة واستهلاكاً للوقت، وقد تستغرق سنوات تُختار فيها عيّنات المشاركين في التجارب، سواء أكانوا مرضى أم لا، ويمكن أن تكلّف أكثر من مليار دولار بدءاً من اكتشاف الدواء حتى خط النهاية.
وتقدّر شركة ديلويت الأمريكية المتخصصة في الاستشارات، أنّ نحو 80% من الدراسات السريريّة تفشل في تحقيق أهدافها؛ لأنّ العيادات والمستشفيات تبالغ في تقدير عدد المرضى المتاحين، أو أنّ هناك معدلات عالية للتسرّب، أو أنّ المشاركين لا يلتزمون ببروتوكولات التجربة.
وتشير دراسة أخرى أُجريت عام 2022، إلى حقيقة أنّ أكثر من 90% من جميع الدراسات السريرية، التي تستغرق في المتوسط من 10 إلى 15 عاماً، تفشل!
عقاقير من إنتاج الذكاء الصناعي
مع تنامي قدرات أنظمة الذكاء الصناعي بشكل هائل خلال السنوات القليلة الماضية، لجأ الكثير من الشركات المصنّعة للأدوية إلى التكنولوجيا الجديدة، واستفادت قدراتها باستعمالها في عملية تطوير العقار.
وأضحى بعض هذه الشركات يلجأ إلى تقنية الذكاء الصناعي في جميع خطوات تطوير الدواء، من التنبؤ بفاعليّة الجزيئة الكيميائية، إلى تحليل وتقديم فرضيّات حول سيرورة ونتائج المرحلة السريريّة، وهي أصعب المراحل.
وحسب تقرير أصدرته إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA)، فإنّها تلقت نحو 300 طلب بدمج الذكاء الصناعي أو التعلم الآلي (Machine learning) في تطوير الأدوية ما بين عامي 2016 و2022.
وتوصّلت (FDA) بأكثر من 90% من تلك الطلبات خلال العامين الماضيين وكان معظمها لاستخدام الذكاء الصناعي، في مرحلة من مراحل الاختبارات السريرية.
وكشفت الإدارة عن وجود قرابة 170 دواءً جديداً يجري العمل عليها، استُعملت فيها إحدى أدوات الذكاء الصناعي لتسريع مرحلة من مراحل الإنتاج.
كما استخدمت شركات الأدوية الكبرى الذكاء الصناعي للعثور على المشاركين المناسبين، أو لتخفيض أعدادهم في التجارب السريريّة، وهو ما قد يؤدي إلى تسريع الأبحاث في مجال تطوير الأدوية، وربما توفير ملايين الدولارات.
السرّ في الخوارزميّات القويّة
تمسح الخوارزميات المليارات من سجّلات الصحة العامة وبيانات الوصفات الطبية ومطالبات التأمين الصحيّ، للعثور على المشاركين المناسبين للتجارب على الدواء الذي يجري تطويره.
وقالت بليث أدامسون، كبيرة العلماء في شركة "فلاتيرون هيلث"، إنّ "ميزة الذكاء الصناعي هي أنّها تتيح للعلماء فحص بيانات المرضى في العالم الحقيقيّ بسرعة وعلى نطاق واسع".
وأضافت أنّه "في السابق، كانت تُستغرق شهور لتحليل بيانات 5000 مريض باستخدام الطرق التقليدية، لكن الآن يمكننا عمل الأشياء نفسها مع بيانات ملايين المرضى خلال أيام".
واستخدمت هذه الطريقة شركة Amgen في خط إنتاج عقار (Blincyto) المُصمّم لعلاج شكل نادر من اللّوكيميا (سرطان الدم)، وحصلت على موافقة السلطات الصحيّة في الولايات المتحدة.
كما انتهجت الشركة الطريقة ذاتها في خط إنتاج عقار "أتوميك" الخاص بأمراض القلب والأوعية الدموية، وتهدف إلى طرحه في الأسواق بحلول عام 2024.
من جهتها كشفت شركة الأدوية الألمانية (BAYER AG) عن استخدامها الذكاء الصناعي لخفض عدد المشاركين في فحوصات دواء "أسونديكسيان" من عدة آلاف إلى النصف، ما وفّر ملايين الدولارات، وقلّص مدة الفحوصات السريرية إلى أشهر بدل سنوات.
ويُعد العقار دواءً تجريبياً مصمماً لتقليل مخاطر الإصابة بالسكتات الدماغية على المدى الطويل لدى البالغين.
فكّ شفرة البيانات
لا تقتصر استخدامات أنظمة التعلم الآلي وباقي خوارزميات الذكاء الصناعي على تسريع نتائج الدراسات السريرية، بل هناك مجالات أخرى بدأت الخوارزميات في سبر أغوارها.
وتوفر تلك التقنيات قدرات غير مسبوقة في فك رموز البيانات البيولوجية المعقدة، والتنبؤ بالتفاعلات الجزيئة للتّركيبات الكيميائية.
ويعدّ تحديد الأهداف الدوائية المناسبة للجزيئة الكيميائية، والتحقق من صحة استعمالاتها، بالاعتماد على الذكاء الصناعي، أحد التحدّيات الحاسمة في تطوير الأدوية، وقد يمكّن الباحثين من اتخاذ قرارات في ظل توقّعات وتحليل الذكاء الصناعي قبل الشروع في عمليات تجريبية شاقّة ومكلفة.
ولتحقيق هذا الغرض، ستؤدي عمليات المحاكاة الحسابية المعتمدة على الذكاء الصناعي والتعلم الآلي إلى تغيير تصميم الأدوية، عبر التنبؤ بالتفاعلات الممكنة بين الجزيئات والبروتينات المستهدفة.
وتساعد عمليات المحاكاة هذه على تصميم الأدوية ذات الخصوصية والفاعلية المحسَّنة مع تفادي الآثار السلبيّة والاقتصار على الحد الأدنى منها.
مخاطر ومخاوف
رغم الوعود الكبيرة والآمال التي تُعقد على خوارزميات الذكاء الصناعي في مجال صناعة الأدوية، فإنّه يجب الحذر من انعكاساتها، فحتماً كما أنّ للذكاء الصناعي إيجابيات، فهو يملك بعض السلبيات.
وممّا يؤخذ على الذكاء الصناعي "تحيّز البيانات" وسؤال "جودتها"، إذ تعتمد خوارزميات الذكاء الصناعي بشكل كبير على البيانات للتدريب واتخاذ القرار.
فإذا كانت بيانات التدريب متحيزة أو ذات نوعية رديئة، فقد تؤدي الخوارزميات إلى إدامة هذا التحيز أو توليد تنبؤات غير دقيقة، وقد تؤدي البيانات المتحيزة في مجال تطوير الأدوية إلى استنتاجات خاطئة حول فاعلية الدواء أو سلامته أو استجابة المريض.
كما أنّ هناك المخاوف الأخلاقية والتنظيمية، إذ يثير تطبيق الذكاء الصناعي/التعلم الآلي في تطوير الأدوية معضلات أخلاقية وتنظيمية، وقد لا تتوافق القرارات التي تتخذها الخوارزميات دائماً مع القيم الإنسانية أو المعايير الأخلاقية.
ومن الإشكاليات المطروحة "كمية البيانات"، إذ تتطلب نماذج الذكاء الصناعي/التعلم الآلي كميات كبيرة من البيانات عالية الجودة للتدريب.
وبالنسبة إلى الحالات التي تكون فيها البيانات نادرة، قد لا تعمل الخوارزميات على النحو الأمثل، مما يحدّ من إمكانية تطبيقها، وهذا يمثل تحدياً خاصاً بالنسبة للأمراض النادرة أو أهداف الأدوية الجديدة.
بشكل عام، أقل من 25% من البيانات الصحية متاحة للعامة للبحث، وفقاً لسمير بوجاري، خبير الذكاء الصناعي في منظمة الصحة العالمية.
ومن المشكلات التي قد يخلقها الذكاء الصناعي والتعلم الآلي، إمكانيّة أن تؤدي القرارات المبنيّة عليه إلى عواقب غير مقصودة؛ بسبب التفاعلات المعقَّدة داخل النظم البيولوجية.
على سبيل المثال، قد يؤدي تغيّر معلمة (سطر برمجي) معيّنة عن غير قصد إلى التأثير على جوانب أخرى من فاعلية الدواء أو سلامته، خصوصاً تلك التي لم تؤخذ بعين الاعتبار في أثناء التدريب النموذجي.