وفي اليوم العالميّ للتّوحد TRT عربي تلقي الضّوء على الجانب الآخر مِن حياة هؤلاء. الجانب الإيجابي، ثمرة سنوات عدّة مِن الإصرار والصّبر والوعي.
فالوعي بأنّ التوحّد هو اضطرابٌ فقط في النّمو العقلي يؤثّر على التركيز والتواصل الاجتماعي لدى الطّفل، والإدراك أنّه بالتعامل الجيّد معه ستقلّ أعراضه تماماً ويتغلّب فيها المريض على مرضه. هذه التوعية ستجعل لدى كثير مِن الأسر التي اكتشفت مؤخراً إصابة أحد أبنائها بالتوحُّد أملاً في الشّفاء وفي حياة طبيعية.
يجب أن نعرف ما التوحُّد. حسناً في البداية يُطلق عليه اسم: اضطراب طيف التوحُّد. فمصطلح "الطّيف" في عبارة (اضطراب طيف التوحُّد) تُشير إلى مجموعة كبيرة من الأعراض ومستويات الشدّة، واضطراب التوحُّد هو "عبارة عن حالة ترتبط بنمو الدّماغ وتؤثر على كيفية تمييز الشّخص للآخرين والتعامل معهم على المستوى الاجتماعي، مما يتسبب في حدوث مشكلات في التفاعل والتواصل الاجتماعي. كما يتضمّن أنماطاً محدودةً ومتكررة مِن السّلوك.
يتضمّن اضطراب طيف التوحُّد حالات ودرجات كانت تُعتبر منفصلة في السابق، منها التوحُّد، ومتلازمة أسبرجر، واضطراب التحطّم الطّفولي أحد الأشكال غير المحددة للاضطراب النمائي الشّامل. فلا يزال بعض الأفراد يستخدمون مصطلح "متلازمة أسبرجر"، والتي يُعتقد بوجه عام أنها تقع على الطرف المعتدل مِن اضطراب طيف التوحُّد. ويصاب بالتوحّد ما بين شخص وشخصين مِن كلّ 100 شخص في جميع أنحاء العالم، ويصاب به الأبناء الذكور أكثر 4 مرات من البنات.
الدرجات وطرق التعامل
في التعامل مع مضطربي التوحُّد على أرض الواقع، يقسّم المختصون التوحُّد إلى ثلاث درجات، فيقول عبد الله عثمان، إخصائي تخاطبٍ ومدير حضانة منذ 14 عاماً مختصّة بالتعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، يقول لـTRT عربي: "نُقسّم الحالات سواء متلازمة داون أو اضطراب التوحُّد إلى إعاقة بسيطة ومتوسطة وشديدة، نعمل مبكراً على البسيطة والمتوسطة منذ أن يكتشِف الأباء أن هناك خطباً ما في سلوك أبنائهم، نعمل على تنمية المهارات والتدخل السّلوكي ونُقيم أنشطة جماعية، كما أننا لاحظنا أن هناك فئات ممن يعانون مِن التوحُّد تتمتع بذكاء عالٍ جداً وتواصل اجتماعي هائل، فندخلها في فئة نُسمّيها فئة "العالي الأداء" وتعتبر من أكثر الفئات إنتاجاً في حالات الإدماج (الإدماج مع الأطفال الطبيعيين في المدارس والأنشطة) وهذه الفئة لو وُضعت في درجة ذوي الاحتياجات الخاصّة ستكون قد ظُلمت وأُهدرت مهاراتُها، وكذلك مع أصحاب متلازمة داون، بينهم فئة تُسمّى بالـ"داون موزاييك" في اختبارات الذّكاء مستواه أعلى من الإنسان الطبيعي، فتكون طبيعته ملائمة للإدماج، فنعمل على التخاطب والمهارات الحركيّة ورعاية الذّات ومهارات ما قبل الكتابة تمهيداً لدخوله المدرسة، وكذلك فالمدارس لها ثلاثة أنواع: الأول الإدماج الكُلي، يكون في كلّ فصل للأطفال الطبيعيين طفلان مِن المتوحدين، بحيث تكون درجة الطّيف التي عنده تتماشى مع مهارات المدرسة فيبدأ باكتساب المهارات وتنسحب منه أعراض الطّيف تدريجياً.
الثاني الإدماج الجزئي، وهو أنّ الطّفل يحضر جزءاً مِن الحصص والباقي يكون في المنزل بتكرار المعلومات، ونعمل معه بشكل أكاديمي مكثف. الثالث قسم صعوبات التعلم، وهؤلاء يكونون في فصل خاصّ بهم، ولكن بعددٍ صغير لا يتجاوز عشرة طلاب في الفصل.
من داروين إلى ميسي.. الجانب المشرق
التوحُّد لا تتوقف معه الحياة، بل إنّ جانبه الإيجابي ليس فقط استمرار الطّفل في الحياة وتواصله مع أقرانه أو أن يتقدّم في مراحل التعليم، بل إنّ كثيرين منهم نوابغ في مجالات عدّة، بداية من تشارلز داروين عالم التاريخ الطبيعي والجيولوجي البريطاني، وحتّى فان جوخ الرسّام الهولندي العظيم ورائد مدرسة الانطباعية، وكذلك آلبرت آينشتاين مخترع نظريّة النسبيّة ومعادلة تكافؤ المادّة والطّاقة وأعظم علماء الفيزياء، وصولاً إلى ليونيل ميسي اللاعب الأرجنتيني الذي اكتشفت أسرتُه مرضَه وهو في الثامنة مِن عمره، إلا أنّه الآن أصبح من أفضل لاعبي كرة القدم على مستوى العالم.
عندما بحثت TRT عربي عن أُسرٍ وأمّهات دعمت أبناءها المتوحدين، وجدت بالفعل أنّ الأبناء تميزوا في بعض المجالات. التقت إيمان، اُم لأيمن وأمير (20 عاماً و18 عاماً)، تقول إنّها كانت رحلة طويلة وممتعة وشاقّة، ولكنّ أيمن الآن هو بطل الجمهورية وكأس مصر في السباحة منذ 2010 حتى 2020، وحصل على أفضل زمنٍ في مصر وأفضل زمنٍ 2013 في البطولة الإقليمية لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وبطل الأولمبياد الخاص 2019 المقامة في دبي وأحرز لمصر ميداليتين فضيّتين وميدالية ذهبية. أما أمير فهو بطل الجمهورية لعامي 2017 و2018.
وتحدثنا مع رحاب منصور والدة مروان 18 عام، في الصفّ الأول الثانوي، كان يتابعه في التعليم عبدالله عثمان إخصائي التخاطب منذ طفولته وما زال يتابعه. تقول رحاب: "لاحظتُ أنّ مروان يستطيع السباحة وحده بدون أي تعلّم وفي المناطق العميقة مِن حمّام السّباحة، فأصبح الآن في فريق ذوي الاحتياجات الخاصّة بالنادي، وهو متميز جداً في السّباحة وكذلك في العزف على البيانو، فهو يتمتع بذاكرة قوية جداً وأصابعه سريعة ويتعلم الحركات سريعا.
المعاناة والعذاب في عيون الأقران
وراء هذا الجانب المشرق كانت هناك سنوات مِن التعب والبكاء والانهيار والصبر والإصرار كذلك، ففي حين استطاعت رحاب مقاومة اليأس ومواجهة المجتمع والخروج بابنها من دون خجل أو إحراج، كان والده لا يستطيع ذلك، وكان ينهار بالبكاء عندما يراه وسط أقرانه ممن يماثلونه في حالة التوحُّد. سنوات مِن جلسات التخاطب والذّهاب لأطباء سمعيّات وتجربة جهاز طبي جديد مستورد من أمريكا، تقول عنه رحاب: "ذهبت لطبيبة لتجربة هذا الجهاز، وهو يعتمد على الاستماع لنوع معيّن مِن الموسيقى تؤثر بشكل إيجابي على خلايا المُخ، وبعد 6 جلسات غالية الثمن أصبح هناك تجاوب بالنّظرات مع مروان وتواصل مع أجهزة الكمبيوتر والألعاب". وتُشير إيمان -وهي طبيبة بيطرية- إلى أنّها كسرت كل القواعد التي قرأت عنها في المراجع العلمية عن التوحّد: "لم أشأ أن يُصبح أبنائي كما تقول عنهم المراجع، لن أجعلهم روتينيين ولا أن يكونوا بلا مشاعر، كيف لا يُكِّن ابني مشاعر لي؟ لم أقبل بهذا وتعاملت معهم على أنهم طبيعيون، أتحدث معهم وألعب ولا أعيد ترتيب غرفهم كما عهدوها، فأصبحوا مع الوقت أقلّ ارتباطاً بالأشياء والروتين وبترتيب الأماكن، أصبحوا أكثر طبيعيّة وتواصلاً معي ومع الآخرين. منذ سنوات أخبرني الدكتور أحمد عكاشة الطبيب النّفسي أن بيني وبين طفلي حاجز زجاج يجب علينا أن نجذبه لأسفل وهذا ما فعلتُه".
اذهبوا إلى إخصائي تخاطب مبكراً
كيف تتعامل الأسر مع ابنها الذي اكتشفت أنه مصاب بالتوحُّد؟ تقول رحاب: "لا تضيّعوا وقتكم مع الأطباء فليس لديهم علاج، اذهبوا فوراً إلى إخصائي تخاطبٍ وإلى حضانات متخصّصة، ولا تفرضوا على ابنكم مكاناً لا يُحبّ المكوث فيه، فربما يُعاني مِن الضّرب أو المعاملة السيّئة". وتنصح إيمان الأمّ التي لديها ابن متوحد بتفهّم تصرفات الأطفال الطبيعيين "لأنهم ليس لديهم إدراك بطبيعة الطّفل المتوحّد، فلا بدّ لي كأم من التعامل بهدوء مع الأطفال الآخرين، لأنه من الطبيعي أن يغضبوا أو يبتعدوا عنه"، أمّا عبد الله عثمان فيقول: "إذا رأيتَ طفلاً متوحداً في حالة هيجان أو عصبيّة شديدة، لا تقف وتشاهده ولا تصوّره بهاتفك، ابتعد أو اعرض المساعدة على مرافقه الإخصائي".