غزة ـــ أجواء العيد البسيطة تسيطر على الأماكن العامة في قطاع غزة. يكثر عدد المواطنين مع أطفالهم في المنتزه المعروف والذي يسمى "الجندي المجهول" وسط قطاع غزة، بالإضافة إلى كورنيش المدينة ومينائها. هذه المناطق العامة التي لا تكلف المواطنين مبالغَ ضخمة من أجل دخولها، ولكن تحتاج إلى شواكل قليلة كافية لإسعاد الأطفال.
المشهد لطيف في منتزه "الجندي المجهول". مجموعة من الشباب يضعون عدداً من الأرجوحات المختلفة من أجل الأطفال. هكذا يتحوّل العيد إلى فرصة لهؤلاء الشباب لإيجاد عملٍ مؤقت. يجتمع الأطفال حول الأرجوحة منتظرين دورهم للعب، بينما تتناهى أصواتُ صراخهم بهجةً وسعادة.
بهجة الأطفال
محمد سعيد (38 عاماً) يقف بجانب أرجوحة ينتظر دور طفلته، متأملاً الأطفال وهم يضحكون ملء أفواههم. أما طفلته، فتتفاعل معهم وكلها رغبة في الصعود على الأرجوحة.
يقول سعيد لـTRT عربي "كل عام وأنتم بخير جميعاً، العيد بالنسبة لنا هو إسعاد الأطفال فقط بأي شكل من الأشكال. إنه فرصتهم لنسيان الظروف الصعبة التي يعيشونها خلال الأيام الأخرى، لهذا جئت بهم اليوم للمنتزه من أجل الترفيه عنهم وإعداد نفسيتهم للسنة الدراسية الجديدة. أجمل شيء هو اختتام العطلة بأيام العيد مع العائلة والأصدقاء".
في كل مكان هنا عائلةٌ مجتمعة. يتحدثون ويشربون القهوة والشاي. ينظرون بفرح إلى أطفالهم الذين يركضون هنا وهناك، سعداء بالحرّية التي تُمنح لهم في هذا اليوم. أصواتُ الأغاني تعلو المكان وتبعث البهجة والفرحة في القلوب. مع مرور الوقت يزدحم المنتزه أكثر بتوافد مزيد من العائلات. وزقزقات الأطفال هي التي تسود المكان دائماً.
العيد للعلاج النفسي ونسيان الأوضاع السياسية
يعيش الأطفال في غزة في ظل ظروف نفسية صعبة بسبب غياب الهدوء ومفاجآت الأحداث والحروب المتتالية، والتي كان آخرها قبل ثلاثة أشهر خلال العطلة الصيفية، إذ استهدفت الطائرات الإسرائيلية أماكن عدة في قطاع غزة، ونشرت الخوف بين الأطفال الذين لا يزالون يعيشون هذه الحالة والترقب لأي شيء مفاجئ قد يحدث لهم.
تنظر ولاء أحمد (40 عاماً) إلى طفلها مبتسمة وهو يقود عربة صغيرة ويلتف حولها ويناديها بين الفينة والأخرى. يغيب عنها مرّاتٍ ثم يعود راكضاً نحوها. سعادةٌ كبيرة تشعر بها هذه الأم وهي ترى طفلها يلعب هنا بعد كلّ ما مر به من خوف ورعب.
تقول لـTRT عربي "في الفترة الأخيرة عاش أطفالي ظروفاً صعبة بسبب القصف على غزة الذي حدث خلال الأشهر الثلاثة الماضية، نحن نسكن في جنوب قطاع غزة، وعندما يستهدف مكان في المنطقة يصرخ أطفالي من شدة الرعب. وقد أثر هذا على نفسيتهم بشكل كبير، فاختاروا البقاء في المنزل بدلاً من الخروج حتى في عيد الفطر".
وتضيف "لكنني سعيدة الآن بخروجهم من حالة الخوف تلك وتواجدهم في مكان عام، متحدّين كل قصفٍ محتمل قد يستهدف أي مكان محيط لهم، لا يستطيع أطفالنا تحمل هذا الوضع القابل للانفجار، لذلك يصبح العيد فرصة لنا لخروجهم من المنزل والتعرف على أطفال آخرين واللعب والاستمتاع بالبحر".
العيد والوضع الاقتصادي المتردي
لا تختلف عاداتُ عيد الأضحى في غزة كثيراً عن نظيرتها في الدول العربية والإسلامية الأخرى. تبدأ بصلاة العيد، ثم الأضحية وصلة الرحم والمعايدة على الأهل والأقارب والجيران.
غير أنّ هذه الأجواء لا تستطيع الاستمتاع بها جميعُ الأسر في قطاع غزة، وذلك بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة التي تحرمهم من ذلك، فخلال هذه السنة، استطاع عدد قليل من المواطنين فقط شراء الأضاحي، وذلك بسبب ثمنها المرتفع مقارنة مع دخلهم. لذلك حُرم العديد من الأطفال من هذه الأجواء داخل منازلهم.
من عادة العديد من العائلات شراء الأضحية كل سنة، لكن، مع بداية الحصار على غزة منذ أكثر من 12 عاماً، صار شراء أضحية للعيد أمراً صعباً. بل إن الكثيرين لم يستطيعوا حتى شراء اللحوم لإسعاد أطفالهم. فحاولوا تعويضها بالتنزه وقضاء أيام العيد خارج المنزل.
يقول وليد صبح (45 عاماً) لـTRT عربي "العيد هو الشيء الجميل الذي نحاول الحفاظ عليه في ظل الوضع الذي نعيشه حالياً. وهو وضع قد يفقدنا شخصاً عزيزاً في غمضة عين. نحن نشعر بالخطر في كل لحظة. ما نستطيع فعله هو أن ندعو الله أن لا يحرمنا ممن نحبّ".
ويضيف وليد "أشعر بالحزن في كلّ عام يأتي بدون شراء أضحية، بخاصة حينما أرى أطفالي ينتظرون هذا اليوم بفارغ الصبر وبحماس كبير. الجميع هنا يحبّ مشاهدة الأضاحي أمام منازلهم واللعب حولها وهم يترقبون صلاة العيد. أفتقد هذه الأجزاء منذ خمس سنوات، بعد أن قل راتبي الشهري ولم يعد يكفيني حتى المستلزمات الضرورية لأبنائي، لذلك توقفت عن شرائها. آمل أن تكون الظروف الاقتصادية أفضل في العام القادم".
العيد.. فرص عمل للأطفال والشباب
في غزة، تستطيع أن تجد طفلاً يدفعُ طفلاً آخر في عربة صغيرة، ويتجول به في المنتزه، لكن هذا ليس مجرد لعب، بل هو عمل مقابل أقل من دولار واحد. عملٌ يقوم به الكثير من الأطفال لجمع مبلغ بسيط من أجل إعالة أسرهم، دون التفكير في حقهم في اللعب مثل الأطفال الآخرين. يتحملون مسؤوليات أكبر من سنهم، بعملهم كصنّاع بهجة لأطفال مثلهم والتجوال بهم، ومن ثم إرجاعهم إلى أهاليهم في نهاية النهار.
يقول وائل اسليم (13 عاماً) لـTRT عربي "أعمل في هذه العربة منذ ثلاث سنوات. رأيتها أول مرة على الكورنيش عندما كنت أبيع الفستق المحمص وفكرت بأن أشتري واحدة لكي أقوم بنقل الأطفال عليها والتجول بهم مقابل 2 شيكل، في الكثير من الأحيان أكون متعباً جداً ولكن التعب يتحول إلى سعادة عندما أرى الأطفال يرقصون ويصفقون للأغاني التي يسمعونها داخل العربة".
ويضيف "بالإضافة إلى ذلك، فهي فرصة لي كي أعمل، بخاصة أن جميع الأطفال معهم عيدية ويستطيعون دفع ثمن جولة بالعربة. يبدأ عملي منذ ساعات الصباح وينتهي عند منتصف الليل".
تنتشر عربات المشروبات الساخنة في الأماكن العامة، إذ يُباع المشروب بدولار واحد أو أقلّ. خلف هذه العربات، يقف شبابٌ في العشرينيات يحضرون القهوة والشاي ويقدمونها لمن يجلسون على كراسي المنتزه أو يجهزونها ويتجولون في المكان لبيعها.
سعيد أحمد (25 عاماً) خريج جامعي لم يجد فرصة عمل يضمن بها قوت عيشه، ولم يكن أمامه خيار سوى فكرة عربة المشروبات الساخنة التي يعمل فيها طوال السنة دون كلل أو ملل، إذ يحافظ على ابتسامته طول الوقت وهو يقدم المشروبات للزبائن.
يقول "أيام العيد هي بهجة وفرحة لي وللناس، يلجأ أغلب المواطنين إلى الأماكن العمومية لعدم تكلفتها. المجيء إلى هنا مع الأطفال والجلوس في المنتزه وعلى الكورنيش لن يكلف العائلات أكثر من 20 شيكلاً (7 دولارات)، إنها بمثابة تعويض عن الذهاب إلى أماكن الترفيه غالية الثمن. لذلك نجد ازدحاماً شديداً في الأماكن العامة، لأنّ كلّ شيءٍ فيها يناسب قدراتهم المالية، بل إن عيدية الأطفال البسيطة تكفي لإسعادهم".
ويضيف "بالنسبة لي، هي فرصة ذهبية من أجل العمل، عكس الأيام العادية التي لا يتوافد الناس فيها بكثرة إلى المنتزه أو الكورنيش لعدم وجود المال الكافي لذلك".
أحلام تخطت المعابر والحدود
يجلس مجموعة من الشباب على الكورنيش، وهم يتصفحون حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لمباركة العيد لأصدقائهم في البلدان الأخرى. يشعرون بالغبن حين يرون بعض أصدقائهم يقضون إجازة العيد في مناطقَ سياحية، بينما هم محرومون من ذلك. تعلو ضحكاتهم بين الحين والآخر نكاية في الحرمان، وسخريةً من قضاء وقتهم في مكان واحد كالمساجين.
يقول سعدي ربيع (28 عاماً) لـTRT عربي "بالنسبة إليّ، لا أشعر بالعيد لأنّ ما كنت أحلم به يختلف تماماً عن واقعي الآن، ظروف الحصار حرمتني من تحقيق أحلامي، إغلاق المعابر وصعوبة السفر والتكاليف المادية وانعدام فرص الشغل، كل هذا حرمني من تحقيق حلمي بالسفر والعمل بالخارج بعد فشلي في تحقيق ذلك بغزة. كنت أحلم بقضاء العيد في بلدٍ آخر ومعي راتب شهري وزوجةٌ وأسرة".
ويضيف بحزن "عندما أفكر بحالتي وأرى من يسافر بحرية أضحك بسخرية من ألمي وقهري".