قد يجدُ البعضُ أن عقابَ الإنسانِ لذاتِه بذاته هو أمرٌ قاسٍ وراقٍ في الوقت ذاته، إذ يدفعه ذلك إلى تقويم سلوكياتِه ويتطلب منه قدراً كبيراً من القوة الشخصيةِ لضبط نفسه وتوجيهها، لكن هذا يصل أحياناً إلى وسائلَ عنيفة، كحرمانِ النفس المستمر أو جعلها تعاني بلا هوادة!
فيلتبسُ مفهوم جلد الذات والرقابة الذاتية على الكثيرين، حتى إنهم لا يدركون الخطَ الفاصل بين المصطلحَين، ففي الغالب يحسبون أن المصطلحين لهما نفس المعنى والنتيجة، ويسلط الإنسان على نفسه سياطَ عذاب ذاتية تحت اسم التقويم، بينما يتخطى السلوك الذاتي سلم التقويم متجاوزه إلى الإيذاء الذي يتخذ أشكالاً مختلفةً ما بين جسدي ونفسي.
وهذا يستدعي الوعي والتمييزَ لمعرفة ما هو صحيح وما هو غير صحيح، فالنفسُ البشرية وإن كانت ملكاً لنا، فهي بحاجةٍ إلى حفظ وتنميةِ وتطوير.. لتعطي وتزهر في احتواءٍ نفسيٍ رزينٍ ومتوازن.
إذاً ما جلدُ الذات؟ لماذا ينتهجُه البعض؟ هل يتحول إلى مشكلة نفسية تتطلبُ تدخلاً، أم هو قوة لمن يجيدها؟ ما الخطُ الفاصل بين جلد الذات والرقابة الذاتية؟ كل هذا وأكثر نتعرّف عمقه عبر تساؤلاتٍ تطرحها TRT عربي...
الجلد... هو تحقيرٌ للذات
د.غادة بن سعيد، متخصصةٌ في علم النفس من فلسطين، تقول لـTRT عربي عن جلد الذاتِ: "إنَّه خطير، إذ يحمِّل الإنسان ما هو فوق طاقاته، وهذا يسبب له الإجهاد النفسي الذي يتطور إلى مشاكلَ نفسية تؤدي إلى سلوكياتٍ غير سوية تتطلب علاجاً وتدخلاً عاجلاً.. فجلد الذات اضطراب نفسيٌ قائم على لوم الذاتِ وتعنيفها وتحقِيرها".
توضح د.غادة بن سعيد الأسبابَ المؤدية إلى جلدِ الذاتِ بقولها: "إن الأسبابَ التي تدفع الإنسانَ إلى جلد ذاته غالباً ما يكون سببُها الأساس هو التنشئة، فالبيئة التي تربيه على الدونيةِ، ستدفعه بشكل لا إرادي إلى تحقير ذاته والتقليل من شأنِها، ويتطور هذا إلى حوارات داخليةٍ تدفع إلى اتخاذ سلوكيات خاطئة بحق نفسه".
تضيف: "كثرة الفشلِ في الحياة أو المواقف المحرجة والصادمة، تدفع الإنسانَ بشكل تلقائيٍ إلى مساءلة نفسه عن الأسبابِ الكامنة وراء ما حدث، فيقوده التفكيرُ السلبي حينئذٍ إلى الشعور بالدونية وقلة الحيلة، ويشعر بالعجز الذي تليه مشاعر التحقير، ممَّا يدفع الإنسان إلى جحيمِ المرض النفسي".
وتؤكد أن "جلد الذاتِ مفهوم سلبي يؤذي به الشخص نفسه ليتخلص أو يخفّف من تأنيب الضمير، وأكثر ما يحتاج إليه هذا الشخص هو الاحتواءُ النفسي لتعديل سلوكِه وأفكاره الخاطئة وتوضيحها له، ويتوقف العلاجُ علي شخصية الفرد، بمعنى أن الأفرادَ الذين يتلقون دعماً نفسياً واجتماعياً هم أكثر قدرة على الشفاءِ من الأشخاص الذين لا يتلقون أي دعمٍ نفسي".
وتشير مرة أخرى إلى أنه "تلعب الثقةُ بالنفس والتنشئة الاجتماعية دوراً كبيراً في التقليل من جلد الذاتِ، بل وتدعم الفرد معنوياً وتجعله قادراً على التأقلم داخل المجتمع، فغالباً ما يلجأ الأفراد إلى جلد ذاتهم بسبب عوامل تشكلت في فترةِ الطفولة أثرت بالسلب على حياتهم، وهم في هذه الحالة بحاجةِ إلى الوعي برواسب التنشئة التي غُرست فيهم، وكيفية قلعها من جذور النفس، لتصبحَ صحتهم النفسية أكثر قدرة على حب الذات واحترامها وتقديرها".
وفي حديثها لــTRT عربي تحذر د.غادة من آثار جلد الذاتِ إن لم يتم علاجه، "هناك آثار جسمانيةٌ وتشمل: الإهمالَ، وإيذاءَ الجسد بأدوات حادة، وتناول عقاقير ومخدرات، وإهمال التغذية السليمة، وضرب أعضاءِ الجسم أو مناطق معينة، وإحداث جروح أو خدوش، واللجوء إلى العنف. أمَّا الآثار النفسية فهي تتضمن: التقليل من الذات، ولوم النفس بشكل متكررٍ وعنيفٍ، وتحقير الذات وطمس الشخصية، والخضوع والاستسلام للواقع أو للمشكلة".
الرقابةُ الذاتيةُ وجلد الذات
أ.أحمد الخالدي، متخصص صحة نفسية ومجتمعية من فلسطين غزة، يقول لــTRT عن العلاقة بين جلدِ الذات والرقابة الذاتية: "هناك خطٌ رفيع بين الرقابةِ الذاتية وجلد الذات، فيفصل بينهما عملية غير واعيةٍ، أي تكون داخل العقل اللاوعي للإنسان حينما يتحول من مراقبة الذات إلى جلد الذات، فالإنسانُ بطبيعته يرغب في التقدير والثناء على السلوكِ والأفعال التي يفعلها".
يتابع: "وهذا يمسُّ بالفرق بين الأنا والأنا الأعلى، فعند مرحلةِ الأنا الأعلى يرنو الإنسان إلى الثناء على السلوكِ وتقدير السلوك، حتى لو كان الثناء نفسياً، أي من الشخصٍ لنفسه. فهو عندئذٍ يراقب أفعاله وسلوكه في كل ما يفعله أو يسلكه من أفعاله".
ويوضح أنه "في حال لم يجد الإنسان الرقابةَ الذاتية أو الثناء على هذه الرقابة الذاتية من نفسه، فإن نتائجَ هذا السلوك يستمدها من المحيط الذي يحيط به، فتتحولُ المسألة بطريقة لا واعية في العقلِ اللاواعي إلى مساءلةِ الذات، ويعيش مرحلة الضحية أو الأصح دور الضحية".
يستأنفُ حديثه: "وهذا الإنسان الذي يعيشُ دور الضحيةِ أو يذهب إليها، إذا لم يجد هناك تقديراً لهذا السلوك من الرقابةِ الذاتيةِ، وتقديراً من الناس الذين يحيطون به، فسوف يذهبُ إلى مساءلةِ الذات ومحاسبتِها، من خلال محاولةِ استجلاب أو استعطاف الذات لنفسه ومن محيطه إلى نفسه مقابلَ هذا السلوك".
يؤكد أ.الخالدي أن "هناك شعرة رفيعة ما بين مسألةِ الرقابة الذاتية وجلد الذات، وأيضاً الإنسان في حين انتقاله إلى جلد الذات لا يكون هناك وعي منه، أو لا يكون هناك بعملية شعوريةٍ بهذا في هذا الفعل أو هذا السلوك، فلذلك يكون هو غير واعٍ، حتى إذا اتهمه أحد المحيطين به أو اكتشفَ سلوكه بذلك وواجهه بهذا السلوك، فهو ينكره ولا يعترف به تماماً".
وعن طرقِ ممارسة الرقابةِ يوضحُ "يمكن ممارستها بطريقتين: فكرياً وسلوكياً. ففكرياً حينما نعي وندرك معنى ونتائج هذه الفكرة وما لها من تقدير وثناء وقوة تأثير في نجاح أي عمل على صعيد ذاتي أو مؤسساتي أو حتى على صعيدٍ سياسي، لأنه إذا أردنا أن نتطور وننجح لا بد من ترسيخ مفهوم الرقابة الذاتية. وسلوكياً حينما يتم تجسيد هذه الفكرة على أرضِ الواقع بالأفعال والسلوك وردودِ الأفعال".
ويختتم أ.الخالدي حديثه لــTRT عربي متحدثاً عن الذات المتسيّبةِ، وهي الذاتُ التي ترأف بنفسها من خلال المسامحة الدائمة لكل الأخطاء التي ترتكبها النفس دون أي رقابة ذاتية، فعندئذٍ يُنصَح بالحزم اتجاه الذات لضبط إعداداتها وسلوكياتِها.