تحاول إسرائيل عزل قطاع غزة عن العالم، منذ بدء عدوانها، وشهدت الأيام الأولى للحرب قطع الكهرباء والإنترنت، ما دفع رواد مواقع التواصل الاجتماعي إلى المطالبة بتشغيل خدمة "ستارلينك" للإنترنت الفضائي التابعة لشركة سبيس إكس، المملوكة للملياردير الأمريكي إيلون ماسك، في غزة على غرار ما وقع في أوكرانيا.
بعد انتشار وسم (#starlinkforgaza)، ردَّ ماسك على المطالبات عبر حسابه بموقع "إكس" (تويتر سابقاً)، موضحاً أن ستارلينك ستدعم الاتصال بمنظمات الإغاثة المعترف بها دوليّاً في غزة.
لكن إسرائيل أعلنت بعد ذلك منعها توفير الخدمة في غزة بأي وسيلة، زاعمة أن المقاومة الفلسطينية سوف تستخدمها لأغراض "إرهابية".
وبعد أكثر من شهر على استمرار الحرب في غزة، زار إيلون ماسك إسرائيل، وأعلن وزير الاتصالات الإسرائيلي أن ماسك لن يزود غزة بالإنترنت إلا بموافقة إسرائيل، فما الذي وقع ليغيّر ماسك خطابه؟
اتهام ماسك بمعاداة السامية
واجه ماسك انتقادات كثيرة منذ بداية الحرب بين إسرائيل وحماس، إذ كانت تفرض منصات التواصل الاجتماعي حظراً واسع النطاق على كل ما يجري نشره حول غزة، فيما كانت منصة "إكس"، المملوكة لماسك، أكثر انفتاحاً وحرية.
ووجهت وسائل إعلام أمريكية اتهامات له بأنه أوصى مستخدمي "إكس" بمتابعة حسابات معادية لليهود اعتبرتها تروج الأكاذيب حول الحرب.
ودعا ماسك في حوار بودكاست مع المذيع ليكس فريدمان إلى محاولة إيجاد مسار بديل للسلام بين إسرائيل وحماس، قائلاً إن مساعدة إسرائيل شعب غزة ستُحبط نيّات "حماس" التي وصفها بـ"المجموعة إرهابية"، محذراً إسرائيل من أن القتل سيولد العنف لدى الأجيال المقبلة في غزة.
لكنَّ تعليقه المؤيد لتغريدة على موقع "إكس" تتهم اليهود بنشر الكراهية ضد البيض هو ما أفرز انتقادات كثيرة للملياردير واتهامات له من طرف البيت الأبيض ومنظمات مدنية وشخصيات سياسية بمعاداة السامية.
وفي غمرة هذه الانتقادات، واجه ماسك ردود فعل عنيفة من كبريات شركات التكنولوجيا والإعلام مثل "أبل" و"آي بي إم" و"ديزني" و"ديسكفري" و"وارنر برذرز" و"باراماونت" وغيرها من الشركات العالمية، التي قررت جميعها وقف إعلاناتها مؤقتاً على منصة "إكس".
وردّ ماسك على هذه الإجراءات داعياً المستخدمين إلى المشاركة في الخدمة المميزة لمنصة "إكس"، وهي "بريميوم بلس"، التي لا توجد عليها إعلانات، وقال "إن عديداً من كبار المعلنين هم أكثر المضطهِدين حقَّكم في حرية التعبير".
التراجع عن تزويد غزة بالإنترنت
بعد أيّام من موجة الانتقادات والاتهامات الموجّهة ضدّه، زار ماسك إسرائيل والتقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي صحبه في زيارة إلى مستوطنة "كفار عزة" في غلاف القطاع، حيث عبّر ماسك عن رغبته في مساعدة إسرائيل في نزع السلاح وإزالة التطرف من قطاع غزة.
ووفق وزير الاتصالات الإسرائيلي شلومو كارهي، فإن ماسك وافق على عدم إتاحة خدمة "ستارلينك" للهواتف المحمولة في غزة، إلا بموافقة السلطات الإسرائيلية.
وكتب وزير الاتصالات الإسرائيلي في منشور له على موقع "إكس": "لن تُشغَّل وحدات ستارلينك الفضائية في إسرائيل إلا بموافقة وزارة الاتصالات الإسرائيلية، ويشمل ذلك قطاع غزة".
فضح مزاعم إسرائيل
بعد تداول صور وفيديوهات من زيارة ماسك إلى إسرائيل، كشف مركز مكافحة التضليل، التابع لدائرة الاتصال في الرئاسة التركية، أنه جرى التلاعب بمجموعة من الحقائق والصور خلال الزيارة.
ومن ضمن هذه التلاعبات عرضُ سرير أطفال زعمت إسرائيل أنه "تعرض لهجوم من حركة حماس على إحدى المستوطنات الإسرائيلية".
وأوضح المركز، في بيان، أن أغلفة الرصاص داخل المهد، التي تزعم إسرائيل أنها لحماس، هي في واقع الأمر ذخيرة (MG3) من عيار (7.62x51) التي تستخدم سلاحاً ثانويّاً (رشاشاً) في دبابات الميركافا الإسرائيلية.
وأضاف بيان مركز التضليل أن حجم الدمار الذي استعرضه نتنياهو أمام ماسك ليس بحجم بنادق المشاة، بل من أثر استهداف الدبابات الإسرائيلية.
استقطاب إسرائيل الأطراف القوية
رغم حجم "التضليل" الذي شهدته زيارة ماسك إلى إسرائيل، فإن الأخير أصبح ملتزماً دعم السردية الإسرائيلية.
يأتي هذا بعد حملة ضغط سياسية وإعلامية واقتصادية، قد تكون أثنته عن التعبير عن آرائه بخصوص ما يقع، والتزام التعبير عن دعم إسرائيل، لكي لا يدخل خانة "معادي السامية".
ورغم دعوات فلسطينية إلى ماسك بزيارة قطاع غزة، فإن الأخير رفض مبرّراً ذلك بخطورة الوضع الأمني في القطاع.
ويرى الدكتور أيمن الرقب، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القدس، أن إيلون ماسك رجل أعمال، ورجال الأعمال لهم حسابات أكثر من السياسة.
ويضيف الرقب لـTRT عربي، أنه "في بداية الحرب هاجمته إسرائيل، لأن منصته كانت مفتوحة وينشر كل شيء دون موانع كالتي حدثت مع المنصات الأخرى من تقييد الحسابات، واعتُبر مُعادياً للسامية لتصريحاته أن العنف يولد أضعافه كراهية وأن هذا سيخلق أجيالاً مستقبلية أعنف".
ويوضّح أن الاحتلال يركز على رجال المال والأشخاص الأكثر تأثيراً في العالم، محاولاً تضليلهم بالكذب من خلال عرض صور وفيديوهات مضلّلة.
ويتابع: "قد شاهدنا ذلك في بداية الحرب مع بعض الممثلين وتأثُّرهم بالروايات الإسرائيلية، ثم اكتشافهم لاحقاً الحقيقة وأن هذه الصور والفيديوهات لغزة وقتلى من فلسطين، وهذا ما حدث مع ماسك أيضاً".
فضلاً عن ذلك، يبيّن أستاذ العلوم السياسية أن بداية الحرب "شهدت تحريضاً إسرئيليّاً كبيراً ضد الشعب الفلسطيني، وساعدتها أمريكا بشكل أكبر، وأتحداهم أن يُظهروا طفلاً إسرائيلياً حُرق أو قُتل، أو امرأة إسرائيلية اغُتصبت".
ويشير الرقب إلى أن بعض المحللين الإسرائيليين "يحاولون ترويج مشاهد إخراج الأسرى الإسرائيليين مبتسمين وملوّحين بالسلام لعناصر حماس، على أنها مشاهد كاذبة تحاول بها حماس تصدير صورة جيدة للعالم عن تعاملهم مع الأسرى، ولكن هذه المشاهد تؤكد كذب وتزييف ادعاءات قوات الاحتلال".
ضغط اللوبيات والإعلام الأمريكي
يرى محمد الليثي، الباحث في الشؤون الإسرائيلية، أن دور اللوبيات الإسرائيلية معروف في أنحاء العالم، وهو استهداف قضايا معينة لممارسة ضغط على الحكومات والشخصيات العامة لتغيير مواقفهم لصالح خدمة إسرائيل، وهو ما حدث في حالة إيلون ماسك الذي أظهر دعمه للفلسطينيين على عكس ما تريده إسرائيل، لأن ذلك من شأنه التأثير في القضية في أوساط المجتمع الدولي.
ويضيف الليثي لـ"TRT عربي" أنه لذلك تعمل إسرائيل في هذه المواقف بالتعاون مع اللوبيات الصهيونية في جميع أنحاء العالم، خصوصاً في أوروبا التي يوجد فيها عدد كبير من تلك اللوبيات، على عكس تلك المواقف والاتجاهات باستخدام أساليب مختلفة، وعلى سبيل المثال، فإذا كان رجل أعمال تُتخذ إجراءات من شأنها تهديد أعماله، وغيرها من الحالات.
ويوضح أن هذه اللوبيات تتبع أسلوب "التهديد والضغط"، وهو ما استخدمته مع حالة ماسك لتغيير موقفه، وما يدعم ذلك الأسلوب أن اللوبيات الصهيونية تمتلك عدداً كبيراً من الأصول في مختلف الدول، مما يجعل موقفها الاقتصادي مؤثراً إلى حد كبير وبشكل واسع. وما أدى إلى فعالية هذا النهج بشكل أكبر في هذه الحالة الأزمات والمشكلات الاقتصادية التي تعاني منها منصة "إكس".
واعتبر الليثي أن الإعلام الأمريكي لعب دوراً كبيراً في الحملة التي شُنَّت ضد ماسك، نظراً للتأثير الكبير الذي يتمتع به اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية في وسائل الإعلام، إذ تتبع نفس النهج الذي يظهر في مضمونه تهديد.
وبالإضافة إلى ذلك، يُعد الموقف الأمريكي داعماً كبيراً للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ولذلك تعمل وسائل الإعلام هناك على دعم ذلك الموقف من خلال تلك الأساليب، حسب الليثي.
ويشير الباحث في الشؤون الإسرائيلية إلى أن الموقف الأمريكي الداعم للعدوان الإسرائيلي لم يقتصر على دور اللوبي أو وسائل الإعلام.
ويتابع: "شهدنا نحن حتى في العالم العربي تأثيراً ملحوظاً في وسائل التواصل الاجتماعي التي عملت على حذف مقاطع الفيديو والصور التي تفضح المجازر الإسرائيلية في القطاع، ولم تكتفِ بذلك، بل كان الدعم واضحاً للرواية الإسرائيلية، نظراً للتأثير الذي تتمتع به وسائل التواصل الاجتماعي".
في المجمل، تتلخص التأثيرات في مواقف ماسك في "الموقف الأمريكي الداعم لإسرائيل، وجهود اللوبي الصهيوني التي تتسم بالابتزاز والتهديد، بالإضافة إلى التأثير عبر وسائل التواصل الاجتماعي".