لقد كانت هذه الآلية ولفترة طويلة من الزمن حكراً على المؤسسات الأكثر نفوذاً في المجتمع كالدول والمؤسسات الدينية/الكنيسة.
في عصر السوشيال ميديا والأجهزة المحمولة أصبحت هذه الآلية أكثر انتشاراً بين العديد من المؤسسات الأخرى كالشركات خصوصاً الشركات التكنولوجية. خذ على سبيل المثال تطبيقات مثل تيك توك وإنستغرام، وكيف تسعى بشكل مكثف لإحداث مقاييس جديدة للجمال والمظهر تفرضها شكلاً من أشكال "الستاندرد" العصري، الأمر الذي يدفع الكثيرين خصوصاً الفئات الهشة كالشباب والأطفال إلى الولوج في عالم إثبات الذات عبر التقليد، وهو ما يعزز عندهم النرجسية المرضية وينتج فردانية بخيلة تؤثر على التماسك الاجتماعي في المحصلة الأخيرة.
ما النرجسية؟
فالنرجسية كسمة في الشخصية ترتبط بمفهوم الذات المتضخمة، والاهتمام بالمصالح الشخصية. فالنرجسي لا يبالي أبداً باحتياجات الآخرين وكل ما يشغله إشباع احتياجاته حتى لو كانت على حساب الغير.
فهو شخص لا يعترف أبدا بتبادل المنفعة، وإن حدث وساعد الآخرين فإن الهدف هو الظهور الذاتي بمعنى أنه شخص متسلق.
صاحب هذه الشخصية ليس لديه مرونة في التفكير فهو دائماً مصمم على وجهة نظره التي يراها دائما صائبة، بالإضافة إلى تعظيم الشخص لقدراته وإنجازاته، ورغبته الملحة بالإعجاب من قبل الآخرين، فهو يرى نفسه شخصاً مميزاً.
وفي المقابل إن ما يشعره بالتهديد وجود شخص مميز يشكل منافسة. وهنا تكون آلية الدفاع لديه الازدراء والتسلط لدعم الأنا الخاصة به. كما لدى الأفراد النرجسيين ولع بتولي المناصب لتأكيد ذاتهم العظيمة وأحقيتهم بالحصول على امتيازات خاصة، علماً أن أعراض الشخصية النرجسية وحدّتها تختلف من شخص إلى آخر.
ويرى عالم النفس الأسترالي ألفرد أدلر أن الشخصية النرجسية تعويضية ينقصها الشعور بالقيمة والأهمية ويملؤها الشعور بالنقص، فتلجأ إلى ارتداء بعض الصفات -غير الجوهرية- للتغلب على الدونية والنقص.
توجد النرجسية لدى جميع الأفراد لكن بدرجات متفاوتة، كما تظهر أكثر في مرحلتي الطفولة المبكرة والمراهقة. فالطفل في هذه المرحلة يركز على ذاته ويرغب دائماً أن يكون مركز اهتمام الآخرين، وفي نفس الوقت هو أكثر اعتمادية على ذويه في تلبية احتياجاته والاهتمام بشؤونه. ويتناقص هذا الاعتماد مع تقدم الطفل بالعمر وهو ما يعظم شعوره بالأنا.
أما المراهق فهو يحتاج إلى درجة من النرجسية التي تعمل دفاعاً من أجل ثقته بنفسه وتقديرها بشكل إيجابي، كما يسعى لجذب الآخرين ليشعر بتحقيق ذاته، فانخفاض مستوى النرجسية يؤدي بالمراهق إلى عدم الثقة بالنفس والاعتمادية على الآخرين. وهنا تأخذ النرجسية ضمن مستوياتها الطبيعية وظيفة خط الدفاع الأول باتجاه الحفاظ على الاستقلالية الذاتية وتجنب الذوبان بالآخر.
بكلمة أخرى إن إشباع الرغبات النرجسية للمراهق يساعده على التوازن والحفاظ على الذات وتقديرها. وحسب المدرسة التحليلية لفرويد فإن التعبير عن الذات المراهقة مؤشر جيد، يحمل معنى سوي للرشد المبكر. فالالتفات حول الذات في المرحلة الأولى يساعد على الالتفات إلى الآخرين لاحقاً، كما أكدت أن النرجسية تعبّر عن إحدى مراحل النمو التي يمر بها الإنسان.
وفي كلا الحالتين تعتبر نرجسية صحية عند الطفل والمراهق إذا بقيت في الحدود الطبيعية وهي تلك التي تدفعه إلى أفعال حميدة لإثبات ذاته لدى محيطه الاجتماعي.
على صعيد متصل قد تكون النرجسية كما يرى باحثون مرضيّة وتظهر فيها الذات غير الطبيعية والتمركز حول الأنا بشكل مبالغ، وقد تكون سويّة تقوم على كسب ثقة الآخرين والعمل على تعزيز الذات في الوقت نفسه، وبالتالي هي شكل من أشكال الذكاء الانفعالي الاجتماعي، عكس النرجسية المرضية التي تخدم الذات فقط وتعني التفاخر والتباهي.
اضطراب الشخصية النرجسية
يعد هذا النوع من الاضطراب مرضيّاً، ويرى علماء النفس أنه ناتج عن إفراط الوالدين سواء بالإعجاب والانتقاد للطفل، فتلعب البيئة والتجارب التي مر بها الفرد خلال المراحل المبكرة في حياته دوراً بظهور الاضطراب وتطوره. كما قد يجعل تعزيز التمركز حول الذات لدى الطفل هذا السلوك يستمر معه. على سبيل المثال عندما يتشبث الطفل بألعاب الآخرين أو أشيائهم من دون رد فعل مناسب من الوالدين ينمو لديه الحب المفرط للذات.
كما يخضع تطور النرجسية ونموها بشكل سوي لدى المراهق لعدة عوامل منها طبيعة العلاقة مع المراهق سواء في البيت والمدرسة إضافة إلى مدى تعرضه للصدمات والمواقف التي قد تسبب له جروحاً تدفعه إلى النرجسية.
إضافة إلى الأسباب المعرفية التي يمتلكها الفرد المتمثلة بأفكار ومعتقدات خاطئة تسهم في نمو هذا النوع من الاضطراب كالاعتقاد بأنّ له الحق في السيطرة والتسلّط على الآخرين.
مواقع التواصل الاجتماعي.. مجتمع إبراز الذات
باتت النرجسية أكثر انتشاراً ووضوحاً في الحياة اليومية في ظل وسائل التواصل الاجتماعي، فكل خاصية توفرها هذه المواقع تشبع رغبات داخل المراهق، وتسمح له بالتعبير عن نفسه بالشكل الذي يريده ويتمنى أن يكون عليه، تجعله يختار الأفضل والأنسب لإشباع حاجاته النرجسية، فيبرز السلوك الاستعراضي النرجسي عند المراهقين من خلال نشر الكثير من الصور الشخصية، وعدد الأصدقاء، والهوس بالمشاركة التفصيلية لكل مناحي الحياة، وكأن المكانة الاجتماعية وتقدير الذات أصبح يرتبط بمدى "إعجاب" الآخرين بقصته ومشاركتهم لها أو تقليدها. إنه سباق نحو ركوب "الترند" واعتباره الطريق الأقرب نحو النجومية والظهور وإثبات الذات.
لقد أظهرت دراسة أن النرجسية لدى الأفراد مرتبطة بالمزايا التي يقدمها فيس بوك والتي تسمح للفرد بإضافة صوره وأصدقائه وعمله وإنجازاته وأفكاره، وكل ذلك مدعم بالإعجاب إذ يعد زر الإعجاب دافعاً مهماً لإشباع نرجسيته. فبمجرد رؤيته لإعجاب (like) يشعر بالسعادة، وفي حال لم يتلقَّ إعجاباً على صورة أو منشور يحذفه، كما تُشعره التعليقات بأنه موضع اهتمام.
هدفت دراسة إلى تَعرُّف طبيعة العلاقة بين مستوى النرجسية وإدمان شبكة التواصل الاجتماعي وجاءت النتائج بأن الحالات التي شملتها الدراسة وهم من المراهقين يحاولون من خلال إدمانهم موقع فيس بوك (وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي) ترميم جروحهم النرجسية واستثمارها بالعالم الافتراضي بدلاً من العالم الواقعي. فمزايا الموقع تسمح لهم بإظهار ذواتهم بشكل مبالغ.
كما تناول بعض الدراسات سلوك هوس نشر الصور الذاتية (السيلفي) على مواقع التواصل الاجتماعي واضطراب الشخصية النرجسية، فجاءت النتائج متباينة بين تلك التي تشير إلى أن نشر صور السيلفي يزيد مستويات النرجسية المرضية لدى الفرد وأخرى ترى أن الدافع وراء نشر صور السيلفي هو التواصل والتوثيق أو حفظ الذكرى والترفيه.