تتمادى إسرائيل في تعدّياته بحقّ البيئة بقطاع غزة، وقد وصل الأمر نتيجة تلك الممارسات إلى جفاف بعض الأودية كوداي السلقا وبيت حانون وتحوُّل منطقة وادي غزة من محمية طبيعة إلى مكبّ للنفايات الصلبة، إلى أن برز دور الشباب لمناهضة تلك الممارسات والحدّ منها من خلال المسارات البيئة التي لفتت نظر السكان المحليين والمؤسسات الدولية للاهتمام بتلك الأماكن من جديد.
واتجه عديد من الشباب إلى إقامة "المسارات البيئية" التي تهدف إلى محاربة ما ترتكبه إسرائيل بحق الأماكن المختلفة في تعمُّد واضح يهدف إلى القضاء على مناحي الحياة البيئية في غزة.
و"المسارات البيئية" هي تجمُّع من الأشخاص المؤثّرين في مجالاتهم المختلفة، كالصحفيين والنشطاء والحقوقيين والمسؤولين والبعثات الأجنبية التي تزور غزة للمرة الأولى.
هؤلاء الأشخاص يتنقلون ويمشون مسافات طويلة بين الأماكن البيئية المهمشة بهدف إحياء تلك الأماكن من خلال تنظيم فاعليات ثقافية، كالغناء والدبكة الشعبية الفلسطينية وإعداد وجبات طعام تراثية فلسطينية.
وينقل كل شخص شارك في المسار تجربتَه إلى الأشخاص الذين لم يزوروا تلك الأماكن، بخاصة أن هذه الأماكن من النادر زيارتها قبل ظهور المسارات.
محمد أبو رجيلة صانع محتوى فلسطيني، نظّم برفقة مجموعة من أصدقائه "مساراً بيئيّاً"، ثم عرض هذه الفكرة على مجموعة من المؤسسات لتدعم فكرته. وبالفعل بين فترة وأخرى يساعد أبورجيلة بعض المؤسسات بتنظيم المسارات مصطحباً في كل مسار أشخاصاً جدداً.
يقول أبو رجيلة: "المسارات البيئية تُقام بناءً على تجارب لمحاولة الحديث عن التغير المناخي وآثاره على المجتمع. وتشمل المسارات الثقافية التي تحيي التراث وتشجّع السياحة في القرى والأرياف بالقطاع، لعدم وجود أماكن للترفيه سوى الفنادق والمطاعم. تهدف تلك المسارات إلى تعريف الشباب جغرافيا بلادهم المحاصَرة، وهي جزء لا يتجزأ من فلسطين".
ويضيف أبو رجيلة لـTRT عربي أن "الصراع مع إسرائيل ليس ثقافياً وأمنياً فحسب، بل تأتي تلك المسارات أداة للاعتراض على الانتهاكات التي يمارسها بحقّ وادي غزة من احتجازه للمياه العذبة الزائدة على حاجته والتي يستخدمها للري في الوقت الذي يفتقر فيه الوادي إلى تلك المياه".
ويضيف: "المسارات أداة تغيير منذ فترة طويلة. كثير من المسارات يُنظَّم شخصياً أو عبر المؤسسات، تُنظَّم فيها فاعليات من قبيل قطف المحاصيل الزراعية في الأماكن الحدودية القريبة من السياج الحدودي الفاصل مع إسرائيل".
من روائح كريهة إلى مزار سياحي
تقول رفيف أسليم، إحدى الفتيات المشاركات في المسار، لـTRT عربي: "عندما علمت أن في وادي غزة مساراً طلبت أن أشارك به لأشاهد حجم الاختلاف، فقديماً كنت أضع يدي على كل أجزاء وجهي حتى لا أشمّ الروائح الكريهة التي كانت تنبعث من الوادي، أما اليوم وبعد الاهتمام به وعدم ضخّ المياه العادمة به فأصبحت الرائحة جميلة".
وتتابع أسليم: "تعمل هذه المسارات على تشجيع السياحة في القرى والأرياف بالقطاع، لعدم وجود أماكن للترفيه سوى الفنادق والمطاعم، ولتعريف الشباب جغرافيا بلادهم المحاصَرة، وهي جزء لا يتجزأ من فلسطين".
وتتابع أسليم: "يحتوي الوادي الذي أصبح مزاراً سياحياً على مجموعة من الأشجار الطبيعية التي أشاهدها للمرة الأولى، والطيور المختلفة، فضلاً عن مجرى المياه الذي يأخذ شكلاً جميلاً".
ويقع وادي غزة الذي يبلغ طوله نحو 90 كم وسط قطاع غزة جنوب فلسطين، الذي يمتدّ من جبال الخليل حتى المكان الذي يصبّ به البحر الأبيض المتوسط.
المسارات تنمّي السياحة البيئية
من جانبه يقول أستاذ العلوم البيئية بالجامعة الإسلامية الدكتور عبد الفتاح نظمي عبد ربه لموقع TRT عربي، إن "المشاركة في أي مسار بيئي يجب أن تكون مخططاً لهاً ومستدامة وفي مناطق ذات أهمية بيئية. ولعلّ الأودية في قطاع غزة -أهمّها وادي غزة وشاطئ البحر ومنطقة المواصي جنوب قطاع غزة- من أهمّ المناطق التي يمكن أن يُشَدّ لها الرحال في المسارات والسياحة البيئية".
ويضيف عبد ربه: "يكون المشي في المسار البيئي في مجموعات مختلفة، والهدف من ذلك المحافظةُ على النظافة والنظام، والمحافظة أيضاً على المحميات والمناطق الطبيعية وعدم إيذاء مكنونها البيولوجي".
ويوضح الدكتور عبد ربه لـTRT عربي أن "وادي غزة أُعلنَ محميةً طبيعيةً عام 2000، ولكنه بات خلال سنوات وعقود خلت مَكرَهة بيئية وصحية بسبب انتهاكات إسرائيل، بخاصة أنه يمنع وصول المياه إليه من خلال فتح السدود".
ويؤكد أنه "حاليّاً يشهد الوادي تحسُّناً متدرجاً بعد إزالة كثير من الانتهاكات، مثل المياه العادمة والنفايات الصلبة والتعديات السكانية، ولا سيما بعد ضخّ المياه المعالَجة من محطة في شرق مخيم البريج. من شأن مجرى الوادي الحالي بما يكتنزه من تنوُّع نباتي وحيواني وزيادة اهتمام المنظمات الدولية وبعض الجهات المحلية به أن يحسّن واقعه البيئي كمحمية واعدة، حتى إنه أصبح حاليّاً مزاراً يقصده الكبير والصغير".
انتهاكات إسرائيل دمّرَت البيئة
في السياق ذاته يقول الباحث في مجال البيئة الدكتور أحمد حلس لموقع TRT عربي: "المسارات البيئية في قطاع غزة تُعتبر وسيلة مهمَّة للتوعية والتثقيف البيئي من خلال إدماج الأشخاص الذين يأتون إلى المسار بالمشكلات البيئية التي تواجه قطاع غزة، وتوعيتهم للحفاظ على البيئة، وبناء ارتباط قوي مع المكوّن البيئي الذي يستهدفه هذا المسار".
ويضيف أن "الذين يأتون إلى المسار يوثّقون ما يشاهدونه داخل المناطق البيئية التي يزورونها، وينقلون هذه الرسالة إلى أصدقائهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتشجيعهم على زيارة هذه الأماكن. يُعتبر وادي غزة محمية طبيعية منذ القدم، لكن إسرائيل دمّرته خلال السنوات الماضية بالانتهاكات التي يرتكبها من منع المياه العذبة من الوصول إلى الوادي نتيجة بناء البرك والسدود، راكم هذا المياهَ العادمة داخله. خلال هذا العام اهتمّ عديد من المؤسسات الدولية والمحلية بالوادي بتنظيفه ومنع تصريف المياه العادمة داخله".
ويشير الباحث البيئي حلس إلى أن المياه العادمة تُعالَج في محطة معالجة مركزية كبيرة تعالج أكثر من 60 ألف متر مكعَّب ضمن معايير ومقاييس دولية، فتُعالَج هذه المياه العادمة وتُضَخّ داخل الوادي كأنها نهر جارٍ لإحياء الوادي.
وقد أثّر العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة بشدة على البيئة، نتيجة ضرب الأراضي الزراعية بالصواريخ والقنابل، ممَّا ساهم في تلويث البيئة، والمعاناة نتيجة ذلك الأمر مستمرة، وحسب سلطة المياه وجودة البيئة في غزة، فإن نسبة كمية الصرف الصحي التي تصرّفها إسرائيل داخل البحر بلغت نحو 115000م3/اليوم، وأظهرت نتائج الفحص أن نسبة تلوُّث الشاطئ بلغت 35%.