نشرت مجلة نيتشر بيوتيكنولوجي العلمية مؤخراً دراسة جديدة شارك فيها الطبيب التركي علي أرتورك، مدير مركز هيلمهولتز للأبحاث بألمانيا والبروفيسور في جامعة ميونيخ، الذي طوّر تقنية wildDISCO، وذلك بهدف تحسين البحث في علاجات السرطان.
وتعتبر هذه التقنية الحديثة امتداداً لتطوير تقنية استجلاء الأنسجة "Tissue Clearing"، التي عمل العلماء على تطويرها منذ عقود.
تقنية استجلاء الأنسجة
وتعود أول محاولة لاستجلاء الأنسجة إلى أكثر من 100 عام، حين حقن عالم التشريح الألماني فيرنر سبالتهولز، الأنسجة بسوائل من خليط كيميائي، لها خصائص الانكسار الضوئي نفسها الخاصة بالأنسجة.
وتساعد تقنية استجلاء الأنسجة في استكشاف التفاعلات الفسيولوجية التي تحدث داخل أجسامنا، وكيفية عمل تلك التفاعلات على جلب الأمراض، وكذلك الوقاية منها وعلاجها، إذ تقدّم التقنية تصويراً ثلاثي الأبعاد للأنسجة السليمة من دون الحاجة إلى تقطيعها بالوسائل التقليدية، وتجنّب فقدان أجزاء مهمة منها.
ولا يقتصر مجال البحث هنا على أنسجة الإنسان فقط، بل أيضاً يتضمن أجساد الكائنات الحيّة مثل الفئران، التي تُعدّ نماذج مثالية لدراسة الظواهر البيولوجية، نظراً لإتاحتها وقصر دورة حياتها، وكذلك احتفاظها بالمسارات الأيضية والجينية المشتركة مع الإنسان.
تقنية DISCO
طوّر العالم التركي عام 2012، مع فريق من العلماء من جامعات ومعاهد بحثية عديدة، تقنية للتصوير ثلاثي الأبعاد سمّوها "3DISCO"، اختصاراً لـ"التصوير ثلاثي الأبعاد للأعضاء المستجلاة بوساطة المذيب"، وذلك من خلال استخدام خليط كيميائي على أدمغة الفئران، تتيح استجلاءها بعد استخلاص الماء من الأدمغة (Dehydration)، ليتصلب نسيج الدماغ، ويصبح شفافاً أشبه بالزجاج.
ثم يأتي دور التصوير ثلاثي الأبعاد لاستكشاف النسيج، وذلك من خلال مجهر ضوئي يعمل بالليزر، لكن كان لهذه التقنية بعض العقبات العملية، تمثلت في ثلاث مشكلات أساسية:
أولاً: إنّ هذه التقنية لا يمكن استخدامها إلّا على الأنسجة الثابتة، وبالتالي فإنّ استخدامها في الخلايا الحيّة هو أمر غير ممكن.
ثانياً: لكون هذا النوع من الاستجلاء المُسمَّى "الاستجلاء الضوئي" يؤدي إلى إذابة البِنى الدهنية في النسيج، فإنّه لن يكون قابلاً للدراسة بوساطة المجهر الإلكتروني أو بوساطة الأصباغ القابلة للذوبان في وسط دهني.
ثالثاً: إنّ تلك الأنسجة المستجلاة غير قابلة للتخزين لفترات طويلة.
ولحسن الحظ، فقد تمكن العلماء بمشاركة الدكتور علي من تجاوز بعض تلك العقبات عام 2016، حين طوّروا التقنية لتكون قادرة على حفظ الأنسجة لشهور، بعد أن كانت تتبدّد في غضون أيام.
علاوةً على ذلك، فإنّ التقنية المطوّرة مكّنتهم من استجلاء كامل أجساد الفئران وتصويرها بدلاً من تصوير الأنسجة الدماغية فقط، ومن ثم قاموا بتسمية هذه التقنية "ultimate DISCO".
واستخدمت التقنية في دراسة أنواع عديدة من الخلايا بجانب الخلايا العصبية، مثل الخلايا المناعية، والخلايا الجذعية، والخلايا السرطانية، وكما استخدمت على الفئران، فقد استخدمت أيضاً على أجزاء من أعضاء بشرية، مثل القلب، وحتى على أجنة بشرية.
ورغم ذلك التقدّم الكبير في تصوير الأنسجة، فإنّه بقيَ من الصعب على العلماء رسم خريطة مفصّلة للبنية الجزيئية للأنواع المختلفة من الخلايا عبر كامل الجسد.
كيف تختلف التقنية الجديدة؟
مقارنةً بالإصدارات السابقة من تقنية DISCO، فإنّ التقنية الحديثة تمثل تقدماً باهراً، إذ بإمكانها تصوير الجهاز العصبي والأوعية الليمفاوية والخلايا المناعية بدقة خلوية عالية لجسد فأر كامل.
وتُمكّن التقنية من فهمِ الترابط الوظيفي لأجهزة الجسد المختلفة، وكيفية بدء المرض عند أحد الأعضاء، ومن ثم يؤثر في عضو أبعد، كما في حالة الأورام السرطانية الخبيثة.
يشار إلى أن انتشار السرطان من النسيج الرئيسي إلى أنسجة أخرى ثانوية، كان سابقاً إحدى الظواهر العصيّة على الدراسة؛ لأنّ تقنيات التصوير تقتصر على تحديد أحجام معينة للأورام، ولا تتمكن من التقاط الخلايا المفردة أو الأصغر، والتي بإمكانها أن تتملّص من العلاج الإشعاعي أو الكيميائي أو المناعي، وتنتشر إلى أنسجة أخرى وتكوِّن ورماً جديداً.
لكن -بفضل التقنية الجديدة- أصبح بالإمكان التقاط تلك الخلايا بدقة عالية في جميع أنسجة الجسد، إذ استخدم الباحثون في هذه الدراسة التقنية المذكورة لرسم خرائط توضح التراكيب الليمفاوية الثلاثية للسرطان، ودور تلك التراكيب في التأثير على الاستجابات المناعية للورم.
ويرى العلماء أنّ تلك التقنية ستنعكس بشكل جادّ على مراقبة علاج السرطان، لأنّها تُمكّن من تجربة أدوية السرطان على الفئران أولاً قبل اختبارها على البشر، إذ يُنقل السرطان إلى فئران المختبر، ثم تصوّر بالتقنيات المتخصصة لمراقبة تطوّر الورم، وبعدها تخضع الفئران لعلاج السرطان، ثم تصوّر مجدداً لمراقبة الفَرق وتطوّر الحالة.
وعن خلفية العمل على هذا البحث، يقول الدكتور علي أرتورك: "بشكل أو بآخر، فقد ساهمت جائحة كوفيد-19 في ظهور هذا الإنجاز العظيم إلى النور، فقد منحتنا الجائحة وقتاً إضافياً للتفكير والمناقشة وتحويل الخلفية المعرفية إلى إنجاز عظيم".
وأوضح العالم التركي بأنّ تلك التقنية غيّرت بشكل كامل من طريقة إجراء التجارب المعملية على المرض، وأنها ستفتح آفاقاً جديدة للبحث العلمي ودراسة الأمراض والظواهر البيولوجية العصيّة على التفسير أو العلاج.