قبل 76 عاماً وبالتحديد عام 1944 وفي أحد أزقة الخان القديم بمنطقة أمينونو التجارية المطلة على الخليج الذهبي في إسطنبول افتتح الأخوان التركيان صبري وعاصم أولكر معملاً صغيراً متواضعاً لصناعة البسكويت، قبل أن يتوسعا بالعمل تدريجياً وينتجا أصنافاً مختلفة من الشوكولاتة المبتكرة التي وصل عددها إلى 461 صنفاً، وقبل أن تصل منتجات "أولكر" إلى 110 دول في مختلف قارات العالم، وتصبح واحدة من أكبر شركات إنتاج البسكويت والشوكولاتة وأشهرها في العالم.
قصة الأخوين أولكر اللذين تحول اسمهما إلى ماركة معروفة في العالم هي واحدة فقط من سلسلة قصص شكلت في مجملها نجاحاً تركياً كبيراً في مجال صناعة البسكويت والسكريات والشوكولاتة، إذ باتت صادرات هذه المنتجات التركية تصل إلى معظم الأسواق حول العالم وتتفوق من حيث الجودة والسعر على أكبر المنافسين في هذا القطاع وتدعم الاقتصاد التركي سنوياً بمليارات الدولارات.
لكن للشوكولاتة حكايات خاصة في تركيا، ما جعلها محط اهتمام وعامل جذب كبير للسياح الذين يزورون تركيا من كل أنحاء العالم، فمن أصنافها وأطعمها المميزة، مروراً بأماكن إنتاجها وتقديمها التاريخية والمميزة والغريبة في بعض الأحيان، وصولاً إلى طرق تصميمها وتقديمها وبيعها، وليس انتهاءً بمتحف الشوكولاتة الشهير في إسطنبول الفريد من نوعه عالمياً.
متحف الشوكولاتة
عمل الشاب التركي "كاظم عيان" 19 عاماً في مخبز صغير بالحي الذي كان يسكنه بإسطنبول، قبل أن يقرر هو وثلاثة من رفاقه عام 1957 افتتاح معمل ودكان صغير لصناعة الشوكولاتة سمَّوه "باليت" فأصبح مكاناً مشهوراً يرتاده المثقفون والسياسيون والسياح، وبعد عقود من التأسيس باتت شركة Pelit واحدة من أعرق شركات صناعة وتصدير الشوكلاتة وأهمها وأكبرها في تركيا والعالم، تنتج يومياً أكثر من 50 طناً من الشوكولاتة وتصدِّر منتجاتها إلى عشرات الدول.
ومن عشق الأتراك للشوكولاتة وزيادة إقبال السياح الأجانب على أنواع الشوكولاتة في تركيا ولإبراز إنجازاتها ومنتجاتها أنشأت شركة باليت متحفاً فريداً من نوعه أطلقت عليه "متحف باليت للشوكولاتة" يضم مئات مجسمات الشوكولاتة الخالصة ويتيح لرواده معرفة تاريخ الشوكولاتة ومصادرها وتطورها وتعرُّف أبرز معالم إسطنبول وتركيا وجانب من أبرز الشخصيات المصنوعة جميعها من الشوكولاتة.
تصف الشركة فكرة المتحف بهذه العبارات: "عملنا بجهد لتحويل النكهة الأساسية من الشوكولاتة إلى الأناقة. الشوكولاتة فن، والفن شغف. حين مزج الحب مع الشغف أُسس متحف إنتاج باليت وهو أول متحف شوكولاتة في تركيا، ومن المتاحف الرائدة في العالم للقاء محبي الفن والشوكولاتة".
ويتكون المتحف من قاعات تحتوي القاعدة الرئيسية على منزل حقيقي من الشوكولاتة ومجسم لسفينة سيدنا نوح وشروحات حية عن تاريخ الشوكولاتة وإنتاجها ومراحل صناعتها، وتتميز بشلال الشوكولاتة الرائع الذي يمكن لجميع زوار المتحف أن يتذوقوا منه، وفي القاعة الثانية تجد مجسمات لأبرز معالم إسطنبول مصنوعة من الشوكولاتة ومنها برج غالاتا ومسجد السلطان أحمد وبرج الفتاة وجسر البوسفور.
أما القاعة الثالثة فتضم مجسمات مصنوعة من الشوكولاتة لشخصيات تركية تاريخية بارزة ومنها السلطان محمد الفاتح والغازي عثمان ومصطفى كمال أتاتورك، في حين تضم القاعة الرابعة لوحات فنية منقوشة بالشوكلاتة لفنانين عالميين، والقاعة الخامسة تحتوي على مجسمات تشرح جانباً من الحضارات القديمة كالدولة العثمانية، ويفرد المتحف جانباً خاصاً لمجسمات الشخصيات الكرتونية الشهيرة التي يتابعها الأطفال، كما يتيح الاطلاع على سير العمل بالمصنع الحقيقي للشوكولاتة من خلف الزجاج.
تفضيلات المستهلكين
حسب إحصائيات المنتجين فإن استهلاك الشخص الواحد بتركيا من الشوكولاتة سنوياً وصل بحلول 2019 إلى 4.4 كيلوغرام، ويتوقع أن تتواصل الزيادة في هذه النسبة لتصل إلى 4.8 كيلوغرام بحلول عام 2024.
ويسعى المنتجون في تركيا لتطوير منتجاتهم بشكل دائم من باب التجديد وتلبية احتياجات كل الأذواق، فشهدت السنوات الأخيرة تطوير العديد من أنواع الشوكولاتة المضاف إليها نكهات مختلفة أبرزها الزنجبيل والكركم والفلفل الوردي، كما عمل منتجون على تلبية احتياجات النباتيين الذين لا يتناولون الشوكولاتة المضاف إليها الحليب بإيجاد بدائل باستخدام خلاصات جوز الهند وبودرة الأرز وغيرها، إذ نمت نسبة الراغبين بشوكولاتة نباتية من 4 إلى 7% مؤخراً، كما لجأ المنتجون إلى زيادة الأصناف التي تحتوي على كميات أقل من السكر لتلبية الطلبات المتزايدة من قبل الأشخاص الذين يتبعون حميات صحية مختلفة.
وحسب "عرفان ديميريل" رئيس جمعية أرباب العمل في تركيا فإن عدد المصانع والمنشآت التي تعمل في صناعة الشوكولاتة بتركيا وصل إلى 1200 مختلفة الحجم، مشيراً إلى أنها تنتج يومياً قرابة 237 ألف طن شوكلاتة و240 طن سكريات بحجم سوقي يصل إلى 3.6 مليار دولار.
ويكشف ديميريل أبرز الإحصائيات المتعلقة بتفضيلات مستهلكي الشوكولاتة بتركيا، إذ يفضل المستهلكون بالدرجة الأولى الشوكولاتة بالحليب ولا يتجهون كثيراً إلى البيضاء، في حين زاد مؤخراً الطلب على الشوكولاتة السوداء الداكنة الخالية من الإضافات، لافتاً إلى أن المستهلكين يفضلون الشوكولاتة المحشوة بالمكسرات وبالدرجة الأولى الفستق الحلبي على حساب الشوكولاتة المحشوة بالفواكه والمجففات.
وتشير إحصائيات اقتصادية إلى أن حجم سوق الشوكولاتة عالمياً وصل بحلول عام 2017 إلى 104 مليارات دولار، ويتوقع أن يصل بحلول عام 2024 إلى 161 مليار دولار، وهو سوق ضخم تسعى تركيا بقوة لتأخذ أكبر حصة ممكنة منه وتزيد حجم صادراتها إلى أسواق جديدة بالشرق الأوسط وإفريقيا وصولاً إلى السوق الأوروبية والأمريكية، وتبقى المعضلة الأكبر لصناعة الشوكولاتة في تركيا ارتباطها بالحصول على بودرة الكاكاو المكون الأساسي لهذه الصناعة من الخارج بسبب عدم زراعتها في تركيا.
تاريخ وفنون
يعتبر "Godiva Café" من أقدم مقاهي الشوكولاتة بتركيا، افتتح عام 1926 في قاضي كوي بإسطنبول، ويوصف المعرض الغني بالتصاميم الساحرة بأنه معرض فني، وهو بمثابة مكتبة غنية بالكتب، ويقدم لزبائنه القهوة والشوكلاتة الساخنة والعديد من أصناف الشوكولاتة المعدة يدوياً.
ويعتبر "Burç Lebon Pastanesi" أول محل حلويات افتُتح بشارع الاستقلال السياحي في إسطنبول بداية القرن الـ19 ويقدم العديد من أنواع الشوكولاتة المميزة والغريبة في بعض الأحيان من قبيل شوكولاتة الكستناء وشوكولاتة الكرز الحامضة.
وفي إزمير يشتهر مقهى "Choccolart" الذي يقدم الشوكولاتة المصنوعة يدوياً بأشكال مختلفة ويحولها إلى فن خاص بالمنحوتات، ويوجد أكثر من 50 نوعاً من الشوكولاتة يجري إنتاجها يومياً في المعمل الخاص به، أغربها الشوكولاتة المصنوعة من الكرز والتوت والعلكة والتوابل العثمانية بأنواعها ونكهة الليمون والقهوة والفلفل الحار والفلفل الحلو والطحينة، ولديه طابق فيه معدات ومعرض من أجود أنواع الشوكولاتة وهو مخصص للزبائن الذين يرغبون في إعداد الشوكولاتة الخاصة بهم والشكل الذي يرغبون في صنعه.
ويبرز أيضاً متجر "أسومان" الشهير في تركيا وهو الاسم الذي اختاره التركي يلماز جيهان لشوكولاتة محلية مصنوعة على الطريقة الأوروبية المميزة، إذ اكتسحت الأسواق الأوروبية والخليجية مثل الكويت والإمارات. وتصنع هذه الشوكولاتة من الخام عالي الجودة المستورد من إسبانيا وباستخدام الفستق الحلبي المميز المزروع في غازي عنتاب بتركيا والبندق المزروع في مناطق البحر الأسود شمالي تركيا.