تابعنا
لا يمكن إغفال قدرة الحوسبة الكمومية على خلق فوضى عالمية وانتهاك خصوصيات الملايين، فهي تؤدي في ثوانٍ معدودات مهام قد تستغرق أجهزة الكمبيوتر الكلاسيكية دهراً لأدائها، هذا بصرف النظر عن قدرتها الخارقة على اختراق نظام التشفير مهما كان مستوى تعقيده.

تعاملاتنا المالية وأسرارنا الطبية وبريدنا الإلكتروني وبيانات هواتفنا المحمولة، كل هذه الأشياء الخاصة ستصبح متاحةً ومنشورةً لمن يملك رغبة في الاطلاع عليها.

هذا ما حذرت منه شركة كندية للأمن السيبراني تدعى "Quantum Defen5e QD5"، قدَّمت في فبراير/شباط الماضي توقّعاتٍ متشائمةً إلى وزارة الدفاع الأمريكية، مفادها أن أسرار الولايات المتحدة، بل وأسرار الجميع ستصبح مشاعاً للجميع.

وقال نائب الرئيس التنفيذي لهذه الشركة، تيلو كونز، إن العالم سيصل بحلول عام 2025 إلى يوم تتمكّن فيه أجهزة الكمبيوتر الكمومية من إبطال أساليب التشفير الحالية وجعلها غير ذات جدوى، وهو اليوم الذي يسميه بعضهم "Q-day" أو "يوم الحساب الكمومي".

والكمّ، وجمعه كموم (quanta) يعد أصغر وحدة في ظاهرة ما.

كما نشر علماء من الصين في أواخر العام الماضي ورقة بحثية تتحدث عن اقترابنا بشكل كبير من مرحلة اختراق التشفير الذي نعرفه في عصرنا الحديث عبر المزج بين تقنيات الحوسبة التقليدية والكمية باستخدام حاسوب كمّي قوي بما فيه الكفاية.

وهكذا قد ترى الدول خططها العسكرية طويلة المدى ومعظم معلوماتها الاستخباراتية مكشوفة أمام أعدائها، كما قد ترى كُبريات الشركات حقوق الملكية الفكرية الخاصة بها في أيدي آخرين، كما أن كثيراً من الشخصيات الهامة ستُفاجأ بنشر السجلات الصحية السريّة الخاصة بها.

"توازن الموازين" الكمومي

من المؤكد أن الآراء منقسمة حول موعد اختراق نظام التشفير، لكنّنا ما زلنا حتماً في بدايات عصر الحوسبة الكمومية، فحتّى الآن لم يجْرِ بناء سوى أجهزة كمبيوتر كمومية صغيرة ذات قوة معالجة محدودة وقابلة للتعرّض إلى الخطأ، إذ يقدِّر بعض الباحثين أن فعالية هذه الأجهزة لن تكتمل إلّا بحلول منتصف القرن الحالي.

ولا نعرف مَن قد يربح السباق أولاً، فالصين تعدّ دولة رائدة في هذا المجال، لكن عديداً من الخبراء يعتقدون أن الولايات المتحدة لا تزال تتمتع بالتفوق هنا.

وترى إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أن خطر خسارة سباق الحوسبة الكمومية سيكون فادحاً، لذلك أصدرت توجيهين رئاسيين، أحدهما لتشكيل لجنة استشارية لمبادرة الكمّ الوطنية تحت سلطة البيت الأبيض مباشرة، والآخر لتوجيه الوكالات الحكومية لضمان الريادة الأمريكية في الحوسبة الكمومية.

أما الصين فتستثمر بكثافة في هذا السّباق، إذ خصّصت أكثر من 15.3 مليار دولار لأبحاثها في تكنولوجيا الكم، متجاوزة الولايات المتحدة بأربعة أضعاف.

ويحرص الرئيس الصيني شي جين بينغ على إيلاء أهمية قصوى لهذه التكنولوجيا بهدف تأمين شبكات البيانات الصينية، ويتمثل ذلك في إطلاق البلاد أول قمر صناعي كمِّيٍّ في العالم عام 2016 بإشراف من الفيزيائي بان جيانوي، وهو شخصية رئيسية في طموحات الصين الكمومية، يطمح إلى جعل بكين رائدة في مجال تكنولوجيا الكمّ، وتعزيز أمنها الرقمي ضدّ أي هجمات سيبرانية.

وتعكس مسيرة بان المهنية استراتيجية الصين، المتمثلة في استيعاب التكنولوجيا الأجنبية، وإرسال العلماء إلى الخارج للعمل في أفضل مختبرات الكمِّ.

في الوقت ذاته، تحتدم الاتهامات بين بكين وواشنطن، إذ قال مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، كريستوفر راي، في سبتمبر/أيلول الماضي، إن الصين "لديها أكبر برنامج للقرصنة مقارنة بما تملكه باقي الدول الكبرى".

كما اتهم تقرير صادر عن وكالة الاستخبارات المدنية الرئيسية في الصين، في سبتمبر/أيلول الماضي، وكالة الأمن القومي الأمريكية بـ"شن هجمات ممنهجة لسرقة البيانات الصينية"، لكن وكالة الأمن القومي الأمريكية رفضت التعليق على اتهامات بكين.

ومع استمرار هذا السباق للسَّيطرة على عالم الحوسبة الكمومية، يوجد سباق آخر بين الدول لحماية بياناتها المهمة، فواشنطن وحلفاؤها مثلاً يعملون على معايير تشفير جديدة تُعرف باسم "التشفير ما بعد الكمي"، وهي رموز يصعب على الكمبيوتر الكمّي اختراقها.

أخطر من الذكاء الاصطناعي

ويقول مايكل بيركوك، الرئيس التنفيذي لشركة "Q-CTRL"، وهي شركة تكنولوجيا كمومية مقرها سيدني، إن التكنولوجيا الكمومية قد تشكل ثورة حقيقية في القرن الحادي والعشرين أشبه بثورة الكهرباء في القرن التاسع عشر.

ورغم أن عديداً من الخبراء يتحدّثون عن مخاطر الذكاء الاصطناعي، فإنه لا يمكن إغفال قدرة الحوسبة الكمومية على خلق فوضى عالمية وانتهاك خصوصيات الملايين، فهي تؤدي في ثوانٍ معدودات مهام قد تستغرق أجهزة الكمبيوتر الكلاسيكية دهراً لأدائها، هذا بصرف النظر عن قدرتها الخارقة على اختراق نظام التشفير مهما كان مستوى تعقيده.

ويعود الفضل في النظرية الكموميّة التي تسعى إلى تفسير الظواهر وفق سلوكيات أصغر وحدة مكونة لها، إلى الألمانيَّيْن ألبرت أينشتاين وماكس بلانك، والدانماركي نيلز بور، الحائزين جميعاً على جوائز نوبل في الفيزياء، رغم أن بلانك كان أوّل من بادر بطرحها في مطلع القرن العشرين.

ومن النظرية الكمومية اشتُقَّت فيزياء الكم وميكانيكا الكم التي تقوم على أساسها الحوسبة الكمومية.

كيف تعمل؟

تقاس كمية البيانات في الحواسيب التقليدية بالبت (bit)، أما في الحاسوب الكمي فتقاس الكمية ذاتها بالكيوبت (qubit) اختصاراً لـ"Quantum bits".

وهكذا تتضمن ميكانيكا الكمّ ثلاثة مبادئ، وهي التراكب (Superposition) والتداخل (Interference) والتشابك (Entanglement).

ويعني التراكب أن قيمة الكيوبت يمكنها أن تكون واحداً أو صفراً أو واحداً وصفراً معاً، في حين أن البِتْ لا تستطيع أن تحمل قيمة غير واحد أو صفر. ويحدّد التدخل حالة الكيوبت ليؤثر في نتيجة محدّدة خلال القياس، وهنا تبرع الحوسبة الكمومية، أما التشابك فهو حين يصبح نظامان كموميان متداخلين أحدهما في الآخر.

وقد ظهر أول حاسوب كمومي عام 2011، أما أكبر حاسوب من هذا النوع فظهر قبل عام واحد فقط.

ولا يزال كثير من الشركات مترددة في صنع هذا النوع من الحواسيب بسبب تكلفتها العالية، فحاسوب ذو خمسين كيوبت قد يكلف عشرة ملايين دولار تقريباً، فضلاً عن الطاقة الكبيرة التي يحتاج إليها في التشغيل والتبريد، إذ تقترب درجة حرارته من الصفر المطلق (نحو 273 درجة مئوية تحت الصفر).

ورغم أن الحوسبة الكمومية لا تزال قيد التطوير، فإنها تقدم وعوداً في قطاعات علمية وتكنولوجية مهمة بفتحها آفاقاً واسعة لمعالجة البيانات الضخمة المعقدة وإنجاز المهام الشائكة، كما ستكون أداة فعالة في فهم الظواهر الطبيعية وتوقع حالة الطقس والاضطرابات الجوية بدقة عالية وفهم التفاعلات الكيميائية والجزيئية، ما قد يساعد على تحليل الحمض النووي والكشف المبكر عن السرطان وتطوير أدوية جديدة وفعالة لأمراض مستعصية.

TRT عربي
الأكثر تداولاً