تونس ـــ مع طلوع شمس أول يوم من العام الجديد كانت الأمور تسير بنسقها العادي في نادي الرياضات البحرية بمدينة قليبية التونسية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، حيث تَعوَّد مجموعة من الشباب المغرمين بركوب الألواح الشراعية ممارسة نشاطهم البحري، باستثناء شخص واحد كان يُعِدّ لأمر ما.
ثلاث ساعات وربع فوق لوح شراعي
كان كل شيء يوحي بأن الأمور تسير على طبيعتها، انطلق الشاب العشريني حمزة الوراسي مع أصدقائه في التدريب اليومي بنادي الرياضات البحرية بمسقط رأسه قليبية، بعد أن احتفل برأس السنة الميلادية برفقة والده، تجاوز حمزة رفاقه بأميال وسط البحر، وقرّر في لحظة جنونية أن يواصل طريقه نحو إيطاليا في رحلة محفوفة بالمخاطر، مستعيناً بلوحه الشراعي.
الشاب العشريني الحائز على عدة كؤوس وتتويجات محلية في رياضة اللوح الشراعي، أصبح حديث الرأي العامّ المحلي والإعلام الإيطالي بعد أن نجح في قطع أكثر من 74 كلم وسط البحر، مستعيناً بلوح شراعي باتجاه شواطئ إيطاليا ليصل إلى جزيرة بونتا لاريا حيث يقيم في أحد مراكز الاستقبال.
ثلاث ساعات وربع هي المدة الزمنية التي قطع خلالها حمزة المسافة بين الشواطئ التونسية وشواطئ إيطاليا، ووصفها في تصريح خاص لـTRT عربي بـ"رحلة موت بحثاً عن حياة أفضل"، وثّق خلالها لحظات وصوله إلى شواطئ الجزيرة الإيطالية مرتدياً قميصاً عليه علم تونس في مشهد سريالي يعكس تناقضات يعيشها الشابّ الذي كان في يوم من الأيام بطلاً في رياضة اللوح الشراعي، لكن إحساس القهر والظلم جعله -كما يقول- يختار الهجرة غير الشرعية.
شعور بالظلم والحيف
تداخلت في ذاكرة حمزة صفحات سوداء من حياته لعلّ أقساها كما يقول وفاة والدته وزواج والده، مما خلّف له جرحاً غائراً، زادت عليها مشاعر الظلم والحيف التي عاشها في نادي الرياضة البحرية، حيث حُرم أكثر من مرة من المشاركة في المسابقات الدولية لأنه لا يملك معاليم الانخراط والسفر، رغم قناعة مدربيه بأنه الأقدر على خوض تلك المنافسات.
"كنت أقرأ القرآن وأردّد الشهادتين طوال رحلتي البحرية"، يقول حمزة متأثراً بعد أن وصل إلى أحد مراكز إيواء اللاجئين بالجزيرة الإيطالية، ويواصل: "كانت لحظة تداخلت فيها مشاعر الفرح والخوف، لم أصدّق أني عبرت تلك المسافة على لوح خشبي أصارع أمواج البحر العاتية".
كانت أول مكالمة أجراها الشاب مع والده، ولا يُخفِي مخاوفه من إمكانية إعادة ترحيله إلى تونس على اعتبار أنه دخل الحدود الإيطالية بشكل غير قانوني، لكن عزاءه في ذلك كما يقول تحقيق رقم قياسي لم يسبقه إليه أحد في قطع تلك المسافة على لوح شراعي، وما لمسه من تعاطف السلطات هناك والإعلام الإيطالي الذي كتب عن مغامرته البحرية.
ترك حمزة والده الملتاع الذي صرّح لوسائل إعلام محلية بتعاطفه المطلق مع ابنه، مؤكّداً أن الوضعية الاجتماعية للعائلة قد تكون أحد أهم الأسباب التي دفعت حمزة إلى خوض هذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر، بل وأكّد الوالد أنه فكر أكثر من مرة في طريقة للهجرة غير الشرعية إلى أوروبا هرباً من ضنك العيش في تونس.
ربما لا يدري حمزة أيضاً مقدار الأثر السلبي الذي خلّفه بقراره "المتهور" كما يقول بعض أصدقائه، بالإبحار خلسة نحو سواحل إيطاليا، الذي وصل إلى حد تعليق نشاط النادي الرياضي البحري بقليبية، وفق ما أكّده مدير النادي أحمد المسلمان لـTRT عربي، مشيراً إلى أن هذا القرار اتُّخذ إجراءً وقائيّاً مغبة أن يحذو بعض الشباب حذو حمزة.
مدير النادي البحري عبّر في الأثناء عن استيائه الشديد مما فعله الشابّ، مشيراً إلى أنه يرتقي إلى درجة "الخيانة"، متوعداً بمحاسبته قانونيّاً في حال إعادته إلى تونس، خصوصاً أنها ليست الحالة الأولى التي يقرِّر فيها أحد المنخرطين في النادي استغلال نشاطه الرياضي البحري لاجتياز الحدود خلسة نحو أوروبا بطرق مختلفة.
أبطال تونسيون في رياضات مختلفة قرّروا سابقاً الهجرة نحو أوروبا مستغلين سفرهم القانوني للمشاركة في مسابقات دولية، ومن ثم يبقون هناك، دون سابق إنذار ليتركوا مسؤولي أنديتهم في حرج.
وتشير أرقام شبه رسمية صادرة عن"المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" إلى أن أكثر من 3500 تونسي نجحوا في 2019 في الوصول إلى السواحل الإيطالية بطريقة غير شرعية، 21 بالمئة منهم لم يتجاوزوا عشرين عاماً.
رحلة حمزة التي تحولت إلى حديث بين التونسيين عبر الشبكات الاجتماعية، خلّفَت ردود فعل متباينة بين من وصفها بالمخاطرة والاستهتار بحياة بشرية، ومن وجد له عذراً في البحث عن حياة أفضل في بلد قتلوا فيه طموح الشباب واستبدلوا به شعور اليأس والخيبة، كما يقولون.