لم تكن طفولة لمياء طبيعية كما تقول لـTRT عربي، هي التي اكتشفت في سن مبكرة أنها لن تتمكن من الاستمتاع بأشعة الشمس، كباقي أترابها، لأن آثار تلك الأشعة على جسدها تعني موتاً بطيئاً ومعاناة لا تنتهي، بسبب مرض نادر يعرفه الأطباء باسم "جفاف الجلد المصطبغ" أو مرض "أطفال القمر".
حين بلغت الحولين، انطلقت معركة لمياء وعائلتها مع هذا المرض النادر الذي اقتحم حياة العائلة دون استئذان، ظنّوا في البداية أنها مجرد حساسية من الشمس، لكن تطور المرض وانتشار التصبغات والبقع السوداء على وجه لمياء وجسدها، كلما تعرضت لأشعة الشمس جعل العائلة تستنجد بأحد الأطباء من الثقات، الذي أبلغهم أن الطفلة تعاني مرضاً نادراً يتطلب حجْراً ذاتياً مدى الحياة وبروتوكولاً خاصاً في اللباس عند الخروج من المنزل.
حجر مدى الحياة
ليس من السهل على فتاة في مقتبَل العمر أن تظلّ حبيسة جدران البيت أو جدران المدرسة، وأن تراقب بعينيها نور الشمس من شبابيك محكمة الإغلاق مغلَّفة بأشرطة بلاستيكية تحول دون دخول الأشعة فوق البنفسجية، لتصبح في عداوة دائمة مع "مارد" يضيء السماء ويتحين الفرصة ليقطف زهرة شبابها، زد عليه، كما تردف، نظرة المجتمع وأترابها في المدرسة أو في الأماكن العامة، بسبب لباسها الواقي من أشعة الشمس، الذي يحاكي ملابس رواد الفضاء في غرابته.
بفيض من الحب لا تخفي الشابة مشاعر الامتنان العميقة لوالدها الذي لولاه ما بقيت على "قيد الحياة وقيد الأمل"، فهو الذي انكبّ منذ اكتشافه مرضَها الغامض في تلك الفترة على معرفة أدق تفاصيله وسبل الوقاية منه، وكان لا يبخل عليها بالنصيحة بقلب الأب وخبرة الرجل المحنَّك، لتكون شخصية قوية مقبلة على الحياة، في وقت اختار فيه غيرها من حاملي المرض العزلة بين أربعة جدران.
تمسكت "بنت القمرة" بحلمها، هي التي طالما خاصمت الشمس مجبرة وسهرت مناجية القمر، لتتمكن بعزيمة وتشجيع دائم من والديها أن تواصل بتفوق ونجاح دراستها الجامعية، وتحوّل مرضها النادر ونظرة المحيطين بها بسبب البقع السوداء الداكنة التي تغزو جسدها، إلى عنصر تحفيز واختلاف، وهي الآن كما تقول بصدد إنجاز أطروحة الدكتوراه في تخصص علم الوراثة، وهو اختيار لم يكن اعتباطياً، بل حرصاً منها على أن تتعمق أكثر في جذور مرضها النادر الذي يُعَدّ عامل الوراثة عنصراً هاماً ومحدداً لانتقاله، بخاصة عند زواج الأقارب.
نشاط مستمر
انخرطت لمياء في العمل المدني والشؤون المحلية، واستطاعت أن تظفر بمقعد في المجلس البلدي التابع لدائرة سكنها بمنطقة المروج بالعاصمة، إثر فوزها في الانتخابات البلدية مستقلةً، كما كرّست جزءاً كبيراً من وقتها للتعريف بمرض أطفال القمر وإخراجهم من العتمة إلى النور، من خلال توعية كثيرين بهذا المرض النادر، ونشاطها المكثف عبر شبكات التواصل الاجتماعي والظهور في بعض البرامج التليفزيونية والإذاعية، فضلاً عن تقديمها دروساً محلية ودولية في التنمية البشرية وكيفية الاعتماد على النفس.
حب وزواج
تاريخ 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 لم يكن عادياً للمياء، التي قررت بعد تردد كبير أن تقتحم عالم السينما والتمثيل وتشارك في بطولة فيلم وثائقي بعنوان "بنت القمرة"، حاز على عدة جوائز وعرض في مهرجان قرطاج السينمائي، اختارت مخرجته أن تسلّط الضوء على المصابين بهذا المرض النادر وتوثّق تجارب بعضهم بحلوها ومرها.
تعيش "بنت القمرة" منذ نحو شهر أجمل أيام العمر، بعد دخولها القفص الذهبي وزواجها بمن اختاره قلبها وعقلها، وهو الذي تَحدَّى نظرة المجتمع، وتَقبَّل اختلاف زوجته، وبات كما تقول أكثر حرصا منها على حمايتها من أشعة الشمس، فيما علّقت هي على صورة زفافهما بالقول عبر صفحتها على فيسبوك: "ثم بعد طول انتظار.. كان عند وعده لي وصافح يد والدي ليعلن المأذون صدق حبه ونُبل أخلاقه، كان رجلاً حقيقياً في مشاعره".
تحلم لمياء بأن توصل طاقتها الإيجابية وعصارة تجربتها مع المرض النادر إلى أكبر عدد ممكن من الأشخاص داخل تونس وخارجها من خلال إلقاء دروس ومحاضرات في التحفيز والتنمية البشرية، لا سيما وأنها استطاعت أن تخلق كما تقول من الضعف قوة، وأن تحول نظرة الشفقة التي تراها في أعيُن كثيرين إلى نظرة إعجاب وتقدير، وأن تكسر حاجز الخوف بينها وبين المحيطين بها من خلال إيمانها بأن مرضها ليس إلا نوعاً من أنواع الاختلاف.
ترغب أيضاً في أن لا يعيش الحاملون لهذا المرض من الجيل الجديد نفس المعاناة والنظرة الدونية التي رأتها هي في أعيُن الآخرين، لذلك تحرص على ارتداء زي "رواد الفضاء" الذي يحميها أشعة الشمس كلما ظهرت في مناسبة عامة أو لقاء تليفزيوني ليتعود الجميع رؤيته بعيداً عن نظرات الاستغراب والسخرية.
مجهود جمعياتي
ليس في تونس إحصائية رسمية لعدد المصابين بهذا المرض النادر، لكن إخصائي الأمراض الجلدية ورئيس "جمعية مساعدة أطفال القمر" محمد الزغل يقول لـTRT عربي إن عددهم يقدر بنحو 800 شخص، ويلاحظ أن معدَّل سن المصابين به يختلف حسب درجة التوقي من أشعة الشمس، فكلما كانت الوقاية مبكرة منحت للطفل فرصة للعيش كأي شخص سويّ، لكن إهمال المرض والتعرض لأشعة الشمس يعجّل بالوفاة المبكرة نتيجة احتراق الجلد وتقرُّحه ليتحول إلى أورام سرطانية جلدية ليقف معدل العمر في حدود 15 سنة.
وتكرّس الجمعية التي أسسها الدكتور زغل برفقة كوادر أخرى، جهدها لمساعدة وتوعية الأطفال المصابين بهذا المرض وعوائلهم، بخاصة توفير ملابس الحماية من أشعة الشمس، التي يصل سعرها إلى نحو ألف يورو، وتُجلَب من أوروبا وأمريكا بمجهودات خاصة من الجمعية.