غرائبية ومشوقة هي الحكايات التي كان يحملها حجاج المغرب إثر عودتهم من رحلتهم الطويلة نحو الحجاز، بعد أن قطعوا أكثر من 5 آلاف كيلومتر جيئة وذهاباً، في رحلة تحفُّها المخاطر تمتد لأكثر من سنة، مواجهين الطبيعة الصحراوية والتضاريس القاسية، كما تقلُّب الأوضاع الأمنية لكل أرض يعبرونها.
ومنهم من لم يعودوا قط، فُقدوا في الطريق، أو اختاروا قدراً آخر لقضاء السنين المتبقية من حياتهم. هو ذا إذن ما كان يعنيه الحج للأجيال القديمة من المغاربة، مغامرة وتخط للصعاب فداء لأداء المشاعر المقدَّسة، كما وسيلة استكشاف العالم خلَّفت للباحثين موروثاً من الراحلة زاخرة بالأدلَّة على تلك الحقبة.
الانطلاق وصولًا إلى مصر
منذ دخولهم الإسلام، ورحلات الحج عند المغاربة تبلغ قدراً من التقديس، كانت فردية أو جماعية انطلاقاً من العهد الموحدي، جعل منها تحظى بمراسيم خاصة، حيث كانت القرى تخرج عن بكرة أبيها لتوديع قافلة الحجاج بأهازيج أمازيغية وعربية، ومدائح نبوية ونظومات تترجم اشتياقهم إلى زيارة تلك المقامات.
فيما كانت تقسم ركاب الحج حسب مواقع انطلاقها، حيث كانت أربعة رِكاب تاريخية: الركب السجلماسي (نسبة إلى سجلماسة)، الركب الفاسي (نسبة إلى مدينة فاس)، الركب المراكشي (نسبة إلى مراكش) والركب الشنقيطي (نسبة إلى شنقيط الواقعة في موريتانيا الآن). فيما كانت كل هذه الركاب تتنافس فيما بينها، سواء بالأعيان ورجال العلم التي تحمل إلى الحج، أو العطايا التي كانت توفدها الزوايا والبيوت السلطانية إلى هناك.
وكان كذلك تنافس للسلاطين المغاربة في ما بينهم حول هذه الهدايا والعطايا الموفدة إلى الأراضي المقدسة، سواء سافر السلطان أو أحد حواشيه معها أو لم يسافر، حيث يقول أبو القاسم الزياني، وزير ومؤرخ مغربي من القرن الـ18م، في وصف ركابه للحج: "لما سافر الركب النبوي، وجه معه السلطان المولى عبد الله ثلاثة وعشرين مصحفاً بين كبير وصغير، كلها محلاة بالذهب، منبتة بالدر والياقوت، ومن جملتها المصحف الكبير العقباني الذي كان يتوارثه الملوك بعد المصحف العثماني".
في هذا السياق كان الركب العائد غالباً ما يعود بعطايا إلى سلاطين المغرب من نظرائهم في المشرق، يذكر المؤرخ المغربي، محمد المنوني، منها "كسوة الكعبة التي وجه ثوباً منها شرفاء مكة إلى السلطان المريني يوسف (القرن 13م)، حيث أعجب به، واتخذ منه ثوباً للبوسه في الجمع والأعياد، كان يستوطنه بين ثناياه".
فيما عن الطريق التي كانوا يسلكونها الحجاج المغاربة، يورد الرحالة والفقيه المغربي، أبو سالم العيّاشي (القرن 11م) في رحلته المعنونة "ماء الموائد"، بأن الحجاج كانوا يشترون في البداية ما يحتاجونه من الزاد في مدينة سجلماسة (جنوب المغرب)، ثم يتزودون في الطريق حتى بلاد ورقلة (جنوب الجزائر) التي ينزلون بها، ليأخذوا معهم عدتهم وآلة حربهم، ويشترون الغنم بغرض أكل اللحم، ويشترون الإبل لركوبها، كما تشهد المدينة التحاق الركب الجزائري بالمغربي في الطريق.
وكانت هنالك رحلات أخرى تنطلق من الشمال، كتلك التي عبرها ابن بطوطة، من مدينة طنجة إلى مدينة تلمسان، ثم مليانة وبعدها مدينة الجزائر التي تكون ملتقى الحجاج الجزائريين. قبل الدخول إلى تونس عن طريق بونة، ويكون الملتقى مع حجاج تونس في مدينة قابس قبل التوجه إلى طرابلس لملاقاة الحجاج الليبيين قبل التوجه إلى القاهرة التي تكون نقطة الجمع بين حجاج شمال إفريقيا وشرقها للدخول إلى الحج عبر طريق الدرب المصري.
حج المشقات والمصاعب
حسب العياشي، كانت رحلة الحج تبلغ ثمانية أشهر، قد تصل إلى سنة بل سنتين لمن ضاع به الطريق ووصل متأخراً عن الحج فمكث في مكة ينتظر الموسم القادم دون معرفة الأهل عنه من موت أو حياة. أما من رام طلب العلم مع الحج فلا أجل لعودته إلا أن يدرك الغاية. لهذا يصعب ضبط المدة التي كان المغاربة يقضونها في حجهم.
فيما لم تكن الطرق التي يسلكونها آمنة، بسبب الحروب وانفلات الأمن تارة، واللصوص المتربصين بقوافل الحجاج على الخصوص لسلبهم ونهبهم تارة أخرى. وكان أكثرهم، بحكم غربتهم عن البلدان التي يمرون بها، يتعرضون لابتزاز الحمالة والنقالة الذين ينقلونهم عبر تلك الطريق. مثال على ذلك ما يذكره بن جبير البلنسي (12م) حيث وصف الحجاج إثر مروره بميناء عيذاب السوداني: "فربما ذهب أكثرهم عطشاً وحصلوا (أي الحمّالين) على ما يُخلّفه من نفقة أو سواها".
بلغت هذه المصاعب والابتزازات التي تعرَّض لها الحجاج حدَّ إفتاء الفقهاء بسقوط فريضة الحج، كما اشتهرت بذلك فتوى ابن رشد لأهل الأندلس والعلماء الشناقطة بإسقاط الحج. كما عانى المغاربة من ضريبة المكس التي فرضتها الدولة العبيدية الفاطمية، حيث يُحبس من لم يملك المبلغ حتى يفوته الحج، إلى أن أسقط الناصر صلاح الدين تلك الضرائب والمكوس الظالمة كما أثبت ابن جبير وهو يثني بذلك عليه.