جرت عادت المغاربة التندر على بعضهم، إذ ما أحد خاض في ماعون الطعام بلهفة، بالسؤال: "هل قدمت من عام الجوع؟". بينما، وعلى الرغم من أن السؤال يأتي في صيغته الفكاهية المازحة، يحمل في ثناياه آلاماً تاريخية عاشها الآباء والأجداد، ولم ينسها الأولاد والأحفاد حتى اليوم.
"عام الجوع" أو "عام البون"، تتعدد الأسماء والمقصود واحد هو سنوات المجاعة السبع التي عاشها المغاربة، ما بين 1939 و1945، والتي لم تكن القدرة السماوية سبباً فيها، بل هو الاستعمار الفرنسي الذي نهب أقوات أصحاب الأرض، من أجل دعم مجهوده العسكري إبان الحرب العالمية الثانية.
مثَّلت سنة 1940 اللحظة التاريخية الأكثر سخرية في تاريخ الإمبريالية العالمية، حين اجتاحت ألمانيا النازية فرنسا لتشطرها نصفين: شمالي تابع لها بشكل مباشر، وجنوبي تحكمه حكومة "فيشي" المسيَّرة بيد "الرايخ الثالث". هكذا غدت فرنسا مستعمِرة ومستعمَرة في الوقت نفسه، والمغرب بلد تحتله دولة فقدت أدنى سيادة على أراضيها التاريخية.
عام "البون"
جعل الاستعمار الفرنسي من هذه الأوضاع السياسية مسوغاً لارتكاب إحدى أبشع جرائم الإبادة الجماعية في حق المغاربة، ذلك حين عمد إلى استنزاف ثروات المغرب لتوريد مجهوده الحربي، قاسماً البلاد إلى منطقتي إدارة: مدنية داخل المدن وعسكرية خارجها، واضعاً مِلكية الأراضي الزراعية في يد المستوطنين الفرنسيين، وفارضاً سياسة التقشف على أصحاب الأرض بإقرار نظام صارم لتوزيع الغذاء.
ومن هذا النظام الصارم لتوزيع الغذاء أتت التسمية الشعبية "عام البون"، حيث منعت السلطات الاستعمارية على المغاربة التزود بالمواد الأساسية لمعيشهم إلا عبر قسائم شراء (Les Bons d’achat) هي من توزعها. ذلك كي تحدد حصص تموين العوائل المغربية، والتي كانت لا تسمن ولا تغني من جوع.
ولم تقف ممارسات الاحتلال الفرنسي عند حد مصادرة المنتجات الفلاحية والماشية من أصحابها المغاربة وتوزيعها على بني جنسهم من الفرنسيين فحسب، بل تمادت لتصل إلى مطالبتهم بتقديم تبرعات لصندوق "مليار للتحرير"، الحملة التي دعت إليها الحكومة الفرنسية لدعم مقاومتها في الداخل.
وتصف شهادة نشرتها جريدة "Le Dépêche" لأحد سكان البوادي ممن عايشوا تلك المرحلة، قوله: "صار الغذاء يتناقص يوماً بعد يوم. غاب اللحم عن مائدتنا أولاً، وغابت الخضار بعده، وبعد ذلك صارت تتناقص الوجبات إلى وجبة، لينتهي الحال ببعض اللقيمات".
ويقول المؤرخ الفرنسي دانيال ريفيت، في كتابه "المغرب من ليوطي إلى محمد الخامس": بأن "الأوهام الحضارية للحماية الفرنسية أخذت بالاضمحلال بفعل أزمة 1929 أولاً، تليها المجاعة الكبرى سنة 1944-1945".
وحسب المؤرخ المغربي بوجمعة رويان، فإن السلطات الاستعمارية فرضت على أئمة المساجد تلاوة خطب تحث المغاربة على "التضحية من أجل تحرير فرنسا". ويكذب المؤرخ الرواية الفرنسية عن كون أسباب المجاعة عائدة إلى الجفاف الذي ضرب البلاد، حيث أثبت في دراسة له بأن التساقطات المطرية في تلك السنوات حققت أرقاماً قياسية.
كيف عاش المغاربة المجاعة؟
ومن أجل النجاة من الشدة غيَّر المغاربة من عاداتهم الغذائية، حيث عمدوا إلى ذبح وأكل كل حية تسعى على الأرض، من كلاب وحمير وقطط ولقالق، ودخلت بُقول عدة إلى موائدهم. وبلغ بهم الفقر والعري إلى نبش قبور الموتى للاكتساء بأكفانهم.
وكان من بين أبرز النباتات التي استهلكها المغاربة وقتها نبتة سامة تُدعى "يرني"، حيث كانوا يجففون جذورها ويطحنونها فتصبح دقيقاً أبيض، فيصنعون منها خبزهم.
وأثرت سنوات المجاعة تلك في ديموغرافيا المغرب، حيث عمد كثير من سكان الوسط إلى الهجرة نحو السواحل، وصولاً إلى المناطق التي حدث فيها إنزال جيوش الحلفاء، وكذلك اللاجئين الفرنسيين الفارين من ويلات الحرب في بلدهم، للاستفادة من الإعانات التي تقدمها الحماية إلى تلك الشرائح.
وخلفت تلك المجاعة حوالي 300 ألف قتيل، في أرقام تختلف عما صرحت به السلطات الاستعمارية، والتي لم تتحدث سوى عن 45 ألفاً. يُضاف إليها قتلى الأوبئة التي ضربت المغرب بفعل الجوع وسوء التغذية، وأبرزها كان التيفوس والطاعون.