يتكوّن "Deveci Tech" من عنفات (توربينات) عمودية وضعت على طول خط المتروباص، وباتت تحول الرياح إلى طاقة كهربائية يجري الاستفادة منها في تشغيل بعض المرافق.
وفي مدرسة "بيلجيك" المهنية بولاية هاطاي التركية يساهم الطلاب في توفير نحو 50 بالمئة من الطاقة الكهربائية التي تحتاجها مدرستهم، عبر برنامج تعليمي حول استخدام مواد الطاقة المتجددة، من خلال تركيب خلايا ضوئية لتوليد الطاقة الشمسية وعنفات هوائية على سطح المدرسة، بغية توليد الطاقة الكهربائية وتوفير مياه ساخنة لمدرستهم.
وفي ولاية مرسين التركية لم يعد مسجد قرية "بويوك أجلي" بحاجة إلى توصيلات للكهرباء، بعدما نجح القائمون عليه بتوفير كل احتياجاته من الكهرباء بشكل كامل عبر وحدات الطاقة الشمسية التي ركبت على سطحه، وبالطريقة نفسها بات مطار ولاية أرزنجان شرقي تركيا يوفر أكثر من 50٪ من احتياجاته من الكهرباء من خلال الاستفادة من الطاقة الشمسية.
هذه بعض القصص والنماذج للمشاريع الصغيرة المتعلقة بالتحول التدريجي نحو الطاقة البديلة، وما هي إلا مجرد مبادرات متفرقة هنا وهناك تعكس حالة الوعي والتحول التي تشهدها البلاد نحو استخدام الطاقة النظيفة، وهو تحول يأتي في إطار خطط حكومية واسعة للاستغناء التدريجي عن مصادر الطاقة التقليدية من النفط والغاز، وزيادة الاعتماد على الطاقة البديلة المستخرجة من مياه السدود والشمس والرياح بشكل كبير حتى عام 2023.
معضلة الطاقة
عانت تركيا لعقود طويلة من معضلة اعتمادها على استيراد الطاقة بنسبة تصل إلى أكثر من 95٪ من الخارج، إذ تستورد الغالبية العظمى من احتياجاتها من النفط والغاز الطبيعي من روسيا وإيران وأذربيجان والعراق وغيرها من الدول حول العالم، بفاتورة باهظة تصل إلى أكثر من 40 مليار دولار سنوياً، تشكل العبء الأكبر على الاقتصاد التركي، وسببت على الدوام خللاً في الميزان التجاري. فبالرغم من رفع نسبة الصادرات بدرجة كبيرة عبر تطوير الصناعات المختلفة بقيت فاتورة الطاقة ترجح كفة الواردات على الصادرات.
هذا المشهد كان أحد أبرز المحركات التي دفعت تركيا إلى البحث عن طرق وآليات مختلفة لتقليل الاعتماد على الخارج في الطاقة تدريجياً، وصولاً إلى الاكتفاء الذاتي والتحرر من الضغوط الاقتصادية والسياسية، ولتحقيق هذا الهدف بدأت تركيا في السنوات الأخيرة عمليات للتنقيب عن النفط والغاز على نطاق واسع في "الوطن الأزرق" الذي يشمل البحر الأبيض والأسود وإيجة، وهي البحار الثلاثة التي تطل عليها تركيا، قبل أن تنجح مؤخراً باكتشاف أكبر مخزون من الغاز في تاريخها بالبحر الأسود، وسط تفاؤل باكتشاف مزيد من الحقول في البحر الأسود، إلى جانب حقول جديدة في شرق البحر المتوسط حيث تنتشر عدة سفن تنقيب تركية هناك.
وعلى الجانب الآخر، كان هناك برنامج استراتيجي للتوجه نحو الطاقة البديلة، وذلك من خلال مشاريع واسعة لبناء عدد كبير من السدود لتوليد الطاقة الكهربائية من اندفاع المياه، وزيادة حقول توليد الطاقة من الشمس، ونشر حقول واسعة لأعمدة توليد الطاقة من الرياح في مناطق مختلفة من البلاد، وبالرغم من أن هذه العملية تبدو طويلة الأمد وتحتاج جهداً كبيراً وميزانيات ضخمة فإن تركيا حققت تقدماً لافتاً في هذا الإطار، ووصلت مؤخراً إلى مرحلة بناء معامل لصناعة ألواح الطاقة الشمسية التي زاد معدل استيرادها من الخارج.
مرتبة متقدمة
وعبر سنوات طويلة من العمل ومئات المشاريع، وصلت تركيا إلى المركز 13 عالمياً و6 أوروبياً في الاعتماد على الطاقة البلدية بشكل عام، وفي الاعتماد على الطاقة الكهرمائية تحتل تركيا المركز التاسع عالمياً والثاني أوروبيا، وفي طاقة الرياح تحتل المرتبة الثانية عشرة عالمياً والسابعة أوروبيا، وفي الطاقة الشمسية الرابعة عشرة عالمياً والسابعة أوروبياً، والطاقة الجوفية الرابعة عالمياً والأولى أوروبياً.
اقرأ أيضاً:
وفي كلمة له قبل أيام، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان: إن "أكبر التحديات التي تواجهها تركيا في مسيرة التنمية هي الاعتماد بدرجة كبيرة على الخارج لسد احتياجاتها من الطاقة"، مضيفاً: "أطلقنا حملة كبيرة في مجال الطاقة الشمسية لزيادة قدرات طاقتنا المحلية والمتجددة وضم الموارد غير المستغلة إلى اقتصادنا".
وقبل أسابيع كشف أردوغان عن أن بلاده رفعت إنتاج الطاقة الكهربائية عبر المصادر المحلية والمتجددة إلى 66 بالمئة من إجمالي الإنتاج خلال أول 5 أشهر من العام الحالي، موضحاً أن تركيا حلت في المرتبة الثانية أوروبياً في مجال إنتاج الطاقة الكهربائية من مصادر متجددة العام الماضي، وقال: "حكومات العدالة والتنمية، في السنوات الـ18 الماضية، أسست محطات كهرمائية بطاقة بلغت 16 ألفاً و554 ميغاواط، وهي طاقة تعادل قيمتها بالمقارنة مع واردات الغاز الطبيعي 17 مليار دولار".
وبحسب دراسة لمجلة "FDİ" التابعة لمجلة "فاينانشال تايمز" حول "مناطق الاستثمار في مجال الطاقة المتجددة بأوروبا لعام 2020"، حلت تركيا بالمرتبة السابعة أوروبياً بـ19 مشروعاً كبيراً في مجال الطاقة النظيفة في قائمة الدول الأكثر جذباً للاستثمارات في مجال الطاقة المتجددة.
يقول محمد ياووز الأمين العام لوكالة التنمية الاقتصادية بإزمير: "تركيا اتخذت خطوات مهمة في الفترة الأخيرة تهدف إلى تحسين مناخ الاستثمار في قطاع الطاقة المتجددة، ما يعزز مكانة البلاد في قطاع الطاقة المتجددة، وذلك من خلال دعم الاستثمارات الأجنبية والآليات الجديدة للمناقصات ودعم المعدات المحلية".
مشاريع كبرى
ومن أبرز المشاريع في هذا الإطار مشروع إنشاء محطة كهرمائية لتخزين الطاقة بالضخ في ولاية إسبارطة، بسعة ألف ميغاواط بالتعاون مع مجموعة Gezhouba الصينية ومجموعة KAF للبنية التقنية، بتنفيذ من شركة جنرال إلكتريك في تركيا والشرق الأوسط، وتبلغ قيمة المشروع 1.5 مليار دولار. ويقول مروان الروب المدير الإقليمي للشركة إن هذا المشروع "يحظى بأهمية قصوى من ناحية تحول تركيا إلى الطاقة المتجددة".
اقرأ أيضاً:
والعام الماضي أعلنت مجموعة شركات "ألبيرقلر" التركية عزمها الاستثمار بمجال الطاقة في البلاد، بقيمة تتجاوز 3 مليارات دولار، وذلك على خلفية عقد اتفاقيات شراكة كبرى مع كبرى شركات الطاقة المتجددة في العالم، حيث ستقوم ببناء محطات توليد طاقة شمسية وتطوير تكنولوجيات دفاعية.
وقبل أيام افتتح في العاصمة أنقرة أول مرفق متكامل لتصنيع الألواح الشمسية في تركيا، ووفقاً للبيان الصادر عن "كاليون جروب"، المستثمر في المشروع، ستحتلّ المنشأةُ مكانةً مهمةً في سياسة الطاقة الوطنية التركية. وأوضح رئيس مجلس إدارة "كاليون القابضة" جمال كاليونجو: "ستنتج هذه المنشأة ألواحاً بقدرة ألف ميغاواط لمحطة "كارابينار" للطاقة الشمسية. وسيتمُّ بناء 70 بالمئة من المحطة باستخدام مكونات محلية المصدر. وعندما يتمُّ تشغيل المحطة سترتفع حصة الطاقة الشمسية في إنتاج الكهرباء بنسبة 20 بالمئة".
وتتنافس الدول الأوروبية على استخدام هذه الطاقة لكن تركيا تمتاز بمكانة أقوى عن بقية الدول في سوق إنتاج الطاقة الشمسية، فبالمقارنة بباقي دول أوروبا مثل إسبانيا، فإن معدل الإشعاع الشمسي وعدد ساعات سطوع الشمس في تركيا يعد كبيراً، فمتوسط ساعات سطوع الشمس السنوي هو 2640 ساعة بواقع 7.2 ساعات يومياً، ممَّا يجعلها مؤهلة لإقامة مشاريع الطاقة الشمسية.
رؤية استراتيجية
وفي إطار رؤيتها الاستراتيجية لتقليل الاعتماد على الطاقة التقليدية والانتقال تدريجياً إلى الطاقة البديلة، أطلقت تركيا سيارتها الوطنية التي ستعمل على الطاقة الكهربائية فقط، لتكون بحلول عام 2023 في الأسواق التركية والعالمية، وهو ما سيساعد بدرجة كبيرة في تقليل الاعتماد على الغاز ومشتقات النفط.
وأعلن وزير الطاقة التركي فاتح دونماز قبل أيام أن وزارته بدأت العمل على تأسيس البنية التحتية لشواحن السيارات الكهربائية في عموم تركيا، موضحاً أنه سيتم إنشاء 250 ألف نقطة لشحن السيارات الكهربائية، لافتاً إلى أن التقديرات تشير إلى أن البلاد سيكون فيها من مليون إلى 2.25 مليون سيارة كهربائية بحلول عام 2030. كما أعلن باحثون أتراك توصلهم إلى نتائج متقدمة لإطالة عمر بطاريات السيارات الكهربائية والقدرة على شحنها بطاقة أقل في الوقت نفسه.
وفي يونيو/حزيران الماضي بدأت تركيا باختبار أول قطار كهربائي محلي الصنع، في ولاية صقاريا غربي البلاد، واعتبر وزير الصناعة والتكنولوجيا مصطفى وارانك أن إنتاج القطار الكهربائي بقدرات محلية، دليل على مدى تطور التكنولوجيا المحلية في تركيا. ومن المنتظر أن يدخل القطار الكهربائي الخدمةفعلياً مع نهاية العام الجاري.
وفي السياق ذاته تعمل منذ سنوات شركة "بوزان كايا" على إنتاج حافلات "المتروباص" الكهربائية التي تستخدمها تركيا على نطاق واسع للمواصلات في البلاد، في حين تعمل الشركة حالياً على تطوير حافلات للنقل العام تعمل بالطاقة الكهربائية، وهي خطوة من شأنها أن تزيد الاعتماد على الطاقة الكهربائية وتقلل مستوى التلوث على نطاق واسع.
وبالرغم من أن تركيا ما زالت في مراحل التأسيس والتطوير لمشاريع الطاقة البديلة، فإنها بدأت بتحقيق نتائج كبيرة، إذ تمكنت محطات الطاقة البديلة، لا سيما محطات توليد الطاقة من الشمس والرياح، من إنتاج طاقة بما قيمته 4.1 مليارات ليرة تركية، وذلك في شهر يوليو/تموز الماضي فقط.
وبحلول عام 2027 تستهدف تركيا إنتاج نحو 10 غيغاواط من الطاقة المتجددة، مقارنة بـ19 ميغاواط في 2002، ثم 364 ميغاواط في 2008.
وبحسب دراسة موسعة لمركز تحولات الطاقة فإنه في حال واصلت تركيا مسيرتها الحالية في تطوير البنية التحتية وزيادة مشاريع إنتاج الطاقة البديلة، فإنها يمكن أن تصل إلى درجة توفير 52٪من حاجتها الإجمالية من الكهرباء بحلول عام 2030، وهو ما يعني توفير عشرات المليارات من الدولارات وتقليل التلوث الناتج عن الوقود والغاز بنسب كبيرة.