ليس بعيداً عن الصواب القول بأنّ مواقع التواصل الاجتماعي ذات علاقة خاصّة بشعوب المنطقة العربية، إذ إنها لعبت، ولا تزال، دوراً هامّاً في التناغم مع صوت "الجماهير". ومنذ الثورة المصرية أتاحت مواقع التواصل للشعوب إمكانية مشاركة المعلومة لحظة حدوثها مع الملايين من سكان الكرة الأرضية. هذا الوضع لم يتغيّر كثيراً رغم كلّ ما سخّرته الأنظمة من موارد لتقييد استخدام مواقع التواصل، واستهداف الناشطين فيه.
وليس بعيداً عن الصواب كذلك القول بأنّ فيسبوك هو المنصّة الأشهر في الجزائر، والأكثر تفاعلاً مع أحداثه. في الحراك الذي تستمر فعالياته حتى الآن "حراك 22 فبراير" انطلقت عبر صفحات فيسبوك ومجموعاته، الدعوة للخروج "الجماهيري" لرفض ترشيح عبد العزيز بوتفليقة لعهدة رئاسية خامسة. لم يكن أحد يدري من أطلق هذه الدعوة ومن يؤطرها، كلّ ما نعرفه أنّ الشرارة انطلقت من فيسبوك.
تثير مواقع التواصل جملة من الإشكالات التي تجعل تفاعلها مع الحراك مشوباً بالخطر لدرجة أنها يمكن أن تلعب دوراً في تقويضه.
هذه واحدة من الإمكانيات الكثيرة التي تقدّمها مواقع التواصل: إمكانية الحشد الجماهيري. إضافة إلى ذلك يوظّف الجزائريون هذه المواقع لتحقيق هدفين رئيسيين في الحراك: يتمثل الأوّل في مشاركة ما يحدث، على أوسع نطاق، عبر تبادل الصور والفيديوهات والأخبار، أولاً بأوّل، عادة ما تخصص أيام الخميس والجمعة والسبت لهذا الخيار، في حين يتمثل الثاني في محاولة خوض "نقاش" جادّ لتقييم الحراك، وآفاقه، وهو الهدف الذي تستوعبه بقية أيام الأسبوع، من الأحد إلى الخميس.
وعلى الرغم من كلّ ما سبق، تثير مواقع التواصل جملة من الإشكالات التي تجعل تفاعلها مع الحراك مشوباً بالخطر، لدرجة أنها يمكن أن تلعب دوراً في تقويضه، مما يثير سيناريو تأزم في العلاقة بين الحراك الجزائري ومواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يدفعنا للتساؤل حول هل يخدم فيسبوك حقّاً الحراك الجزائري.
أعتقد أن فيسبوك لا يخدم الحراك الجزائري بشكل كافٍ، على الأقلّ عند مستوى النقاش والحوار. هذا الموقف الحذر من فيسبوك في علاقته بالحراك، في تجربة الجزائر، تمليه ثلاث أفكار أساسية:
أولاً: للفيسبوك في الجزائر ذاكرة استقطاب لا تزال آثارها حيّة حتى الآن. يمكن لباحث أن يستعرض أمامه المواضيع التي كانت "ترند" في السنوات الخمس الماضية، وسيجد أنّ كثيراً منها ينتمي إلى إشكالات الهوية والدولة والآيديولوجيا. وعادة ما تبدأ الاحتجاجات بمطالب فئوية مشروعة، لينتهي بها الحال، بعد فترة، إلى استقطاب آيديولوجي حادّ على فيسبوك، يتبنَّى طرف ما هذه المطالب، ويرفضها الآخر جملة وتفصيلاً، وهكذا دواليك.
هذا الوضع لم يكُن وليد تحريش الحكومة بين فئات الشعب فقط، بل إنّ فيسبوك، كآلية للتواصل، يتيح، وربما يساهم، في خلق مثل هذا الاستقطاب "الجماهيري"، الأمر الذي ينتهي بنا لا إلى تحقيق المطالب، بل إلى خوض نقاشات عقيمة لا طائل من ورائها.
ولأنّ هذه الذاكرة لا يزال العهد بها قريباً، فلا أعتقد أنّ النقاش على مواقع التواصل خيار أفضل للحراك. ففي الأسبوع الرابع من الحراك، شهدنا موجة من هذا النوع، ارتفعت فيها أسئلة آيديولوجية، غير أنّها لم تدُم سوى أربعة أيام، قبل أن يبين الشعب يوم الجمعة في اختياراته: جمهورية ديمقراطية لجميع الجزائريين. فإذا كان فيسبوك يسهل فيه الاستقطاب، وتجاربنا السابقة تؤكّد هذا، فلماذا نصرّ على اختياره منصّة للتحاور؟
الفكرة الثانية تدور حول "الشارع باعتباره فضاء عاماً". حراك 22 فبراير ليس حراكاً ضدّ بوتفليقة فقط، بل هو حراك لاسترجاع "كلّ" ما سلبه بوتفليقة من الشعب، ولعلّ أهمّ مظهر أصرّ الجزائريون على استعادته مبكّرا كان "الشارع" أو الفضاء العامّ. طيلة حكم بوتفليقة، كان ممنوعاً بحكم القانون التجمُّع والتظاهر، إلا بإذن سابق، وربما تكون الجزائر العاصمة الوحيدة في العالم التي لا تنتشر فيها الفنون التي تؤدَّى في الشارع، وكثيرون هم الشباب الذين اعتُقلوا فقط لأنهم كانوا يؤدون فنونهم على الطريق.
استعادة الشارع هي المكسب الأساس للحراك، المكسب الذي ينبغي المحافظة عليه، واستثماره. يتصل بهذا أن تصبح المناقشات والحوارات علنية، حيث يكون بإمكان كلّ أحد أن يتدخل بما يراه مناسباً. نحتاج إلى أن نخرج من جدران اليأس، أن نقطع علاقتنا بالعالم الوهمي، ومواقع تواصله، أن نكون خارجاً، في الشارع، حيث الحياة والفعل، وحيث ترى الناس ويرونك. النقاشات على مواقع التواصل، وإن كانت مهمّة، فإنها لا تصل إلى أهمية الحوارات على أرض الواقع.
ومنذ الثاني والعشرين من فبراير انتشرت فيديوهات كثيرة لجلسات نقاش طويلة في مدرَّجات الجامعات، والساحات العامّة، بل نقل بعض الأساتذة محاضراتهم إلى المقاهي والحدائق، وأصبح من الطبيعي أن تجد مجموعة من الشباب يبحثون ممكنات الحراك وآفاقه.
استعادة الشارع هي المكسب الأساس للحراك المكسب الذي ينبغي المحافظة عليه واستثماره.
هذه النقاشات تتفوق على نقاشات فيسبوك في كونها تخلق "الثقة"، وتجعل الأفكار "مفعمة بالإحساس". ربّما كانت السيئة الكبرى لمواقع التواصل أنّها تقتل "بيئة الحوار"، لاعتمادها أساساً على "الحرف".
حين تكون في الشارع، وتستمع إلى الناس وتحدّثهم، وجهاً لوجه، ستتعرف إليهم، تتأكد من اهتمامهم بما تقول، تقرأ لغة أجسادهم، تفهمهم وتشرح وجهة نظرك جيّداً. كلّ شيء متاح في أرض الواقع، وبفعالية كبيرة، لدرجة أنّ النقاشات قد يعقبها "فعل" مباشر، بينما على فيسبوك، تكون مجرَّد أفكار نتشاركها هنا وهناك، أفكار تكون غالباً استناداً إلى وقائع كثيرة، مشبعة بمشاعر العجز، والخوف، والتردد، وقلّة الثقة، والترقب، والكلام الكثير، والتهويل، والتسرع، والكسل.
أيام الخميس والجمعة والسبت، يكون فيسبوك متفائلاً نشطاً واثقاً محبّاً للحياة، بينما يخفت بريقه في بقيَّة أيام الأسبوع. من هنا، لا أجد فيسبوك مفضَّلاً للحوار والنقاش، أختار بدله الفضاء العامّ: المقاهي والساحات العمومية، والمدارس والجامعات، والمساجد ومؤسسات المجتمع المدني، وفي كلّ مكان يمكن للجزائريين أن يجلس فيه بعضهم إلى بعض.
أعتقد أنه يجب أن تنحصر مهمّة فيسبوك في النقل، والحشد، وفي الإعلام، أمَّا إن رغبتُ أنا بعرض أفكاري عليك، أو سماع أفكارك، فليس أفضل من كاس آتاي تيميمون، بعد السابعة مساء، في محطة الحافلات، بالكيتاني.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.