وهو تحوُّل يعكس التطلع التركي المتصاعد وما ترغب أن تلعبه من دور إقليمي ودولي متزايد. وتحرص تركيا منذ سنوات على تعزيز اهتمامها بالقارة الإفريقية الفتية، وقد بدأ هذا الاهتمام يتبلور ضمن رؤية واضحة ومتكاملة منذ نحو عقدين، لا سيما مع الاستراتيجية التي صاغتها أنقرة في 1998 بعنوان "سياسة الانفتاح على إفريقيا".
وعلى الرغم من أن تلك الرؤية تَعثَّر تنزيلها، فإنه مع بداية تجربة حزب العدالة والتنمية في 2005 تجدّد الاهتمام بإفريقيا، واعتبرت الحكومة التركية أن عام 2005 هو "عام إفريقيا"، فزار خلاله رئيس الحكومة آنذاك رجب طيب أردوغان كلّاً من إثيوبيا وجنوب إفريقيا، كأول رئيس حكومة تركي يزور القارة.
واحتضنت تركيا القمة الأولى للتعاون التركي-الإفريقي في 2008، ثم تتالت الجولات في إفريقيا من القادة الأتراك لا سيما أردوغان والرئيس السابق عبد الله غل.
في هذا السياق تولي تركيا اهتماماً خاصاً للمنطقة المغاربية (شمال إفريقيا)، لا سيما الجزائر.
ولقد كانت زيارة الرئيس التركي للجزائر في 26 يناير/كانون الثاني 2020 مناسَبة مهمة للبلدين من أجل تعزيز العلاقات بينهما، اقتصادياً ودبلوماسياً وثقافياً وأمنياً واستراتيجياً.
فالجزائر وتركيا ترتبطان بعلاقات تاريخية كبيرة تعود خمسة قرون إلى الوراء، عندما وصل القائد العثماني خير الدين بربروس إلى شمال إفريقيا في 1516، ولعب دوراً أساسياً لجهة مواجهة الإسبان والفرنسيين في حملات القرصنة والتحكم التي كانوا يقومون بها في البحر الأبيض المتوسط والسيطرة على السفن التجارية. وقد احتفلت الجزائر وتركيا في 2016 بمرور 500 عام على العلاقات بينهما.
وتبدو تركيا حريصة اليوم على مزيد من تعزيز العلاقات بينها وبين الجزائر، وتثمينها عبر روابط استراتيجية في إطار مصالح مشتركة ومتوازنة، في مجالات مختلفة، تتجاوز السياسة إلى الثقافة، والاقتصاد إلى الأمن، والشراكة في إنجاز مشاريع صناعية عسكرية، تعزز قوة البلدين.
وتنظر تركيا إلى الجزائر بحكم وزنها الجغرافي والديموغرافي، ومكانتها التاريخية والجيوسياسية، البوابة الرئيسية للمنطقة المغاربية (100 مليون نسمة) وللقارة الإفريقية (نحو مليار نسمة).
وتحتل الجزائر المرتبة 9 عالمياً في إنتاج الغاز الطبيعي، ولها عاشر احتياطي عالمي منه. كما تحتلّ الجزائر المرتبة 16 عالمياً في احتياطي النفط. وتحتلّ الجزائر ثالث أكبر مصدر للغاز الطبيعي لتركيا بعد روسيا وإيران.
ففضلاً عن عزم البلدين على رفع حجم المبادلات التجارية بينهما من 3.16 مليار دولار إلى 5 مليارات دولار، يتوسع حجم الاستثمارات التركية في الجزائر بشكل متصاعد، ويوفّر آلاف مواطن الشغل بشكل مباشر وغير مباشر.
والجزائر في ظلّ ما تَحقَّق فيها من استقرار مقبول على المستوى الأمني يمكنها أن تمثّل قطباً جاذباً للاستثمارات الخارجية. ففي الوقت الذي يقرب فيه حجم المشاريع الاستثمارية التركية من 6 مليارات دولار، تتجه تركيا إلى تعزيز وتوسيع استثماراتها في مجال بناء المساكن الاجتماعية والمستشفيات والسدود والطرقات السريعة والأنفاق والمواني.
وتضع الجزائر خططاً لتعزيز بنيتها التحتية بشكل نوعي، إذ يشير بعض التقارير إلى مخططات في هذا الصدد بموازنة قد تصل إلى 150 مليار دولار. وتُعَدّ تركيا من أبرز الدول نجاحاً ونجاعة وخبرة في إنشاء بنية تحتية صلبة.
وتتجه تركيا والجزائر إلى تعزيز علاقتهما في مجال التعاون العسكري، بما يعزّز القدرات القتالية والدفاعية للجزائر، لا سيما مع التطور الملحوظ في الصناعات العسكرية التركية، لا سيما في مجال الطائرات بلا طيار التي باتت إحدى الصناعات الحيوية الحديثة عبر العالم. ولعل ذلك يمكّن الجزائر من تأمين ترابها بشكل فعَّال، لا سيما وأن مساحتها الجغرافية الواسعة (2.382 مليون كم مربع) تتطلب مثل هذه التكنولوجيا العسكرية الحديثة.
وفي الوقت الذي يتزايد فيه الاهتمام بالمنطقة المغاربية لموقعها الحيوي المتجاور مع أوروبا، ولما تحتوي عليه من مصادر حيوية للطاقة، لا سيما الجزائر وليبيا، وبالنظر إلى التسابق الواضح لترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط، في ظلّ تأكيدات لوجود مخزون من الغاز الطبيعي فيه، أمام كل هذه المعطيات تبدو الشراكة الاستراتيجية بين الجزائر وتركيا أكثر من حيوية، لمصلحة البلدين في مجالات الأمن والطاقة والمبادلات التجارية.
وتزداد أهمية هذه الشراكة مع فرص البلدين في التنسيق والتعاون لدخول السوق الإفريقية التي تحتوي على إمكانيات هائلة، جعلت القارة محلّ اهتمام وتنافس واضح في السنوات الأخيرة بين واشنطن وموسكو والصين التي ضمت إفريقيا إلى طريق الحرير باستثمارات تقدر بأكثر من 300 مليار دولار.
ولقد خطت تركيا خطوات مهمة في تعزيز تعاونها مع إفريقيا، بمقاربة تجاوزت المستوى الاستثماري الاقتصادي إلى مجالات الإغاثة الإنسانية وتقديم مساعدات للعديد من دول القارة، سواء لجهة تجاوز صعوبات اقتصادية أو لجهة المساعدة في تحقيق الأمن والاستقرار. وفي الوقت الذي تميل فيه قوى مثل الصين وروسيا إلى التعامل مع الدكتاتوريات وحمايتها، تُبدي تركيا حرصاً على مساعدة الدول التي تعيش انتقالاً ديمقراطياً.
وزار أردوغان منذ وصوله إلى السلطة عام 2003، القارة السمراء أكثر من أي زعيم عالمي آخَر، وتجاوز عدد الدول التي زارها أردوغان 30 دولة.
ويفسح تعزيز العلاقات بين تركيا والجزائر الفرصة أمام الأخيرة لتوسيع أفق استثماراتها الدولية وتنويع وتوسيع وتعزيز شراكاتها الاقتصادية التي تبدو إلى حد الآن "محصورة" إلى حد كبير مع أوروبا. إذ وقعت الجزائر والاتحاد الأوروبي اتفاق شراكة اقتصادية في 2002 ودخل حيز التنفيذ في 2005، ويبلغ حجم التبادل التجاري بين الطرفين نحو 60 بالمئة من حجم المبادلات التجارية للجزائر، فيما يرى خبراء اقتصاديون أن الارتباط الواسع للجزائر بالسوق الأوروبية يفوّت عليها فرصاً كبيرة أوسع للتنمية الاقتصادية، فرصاً يبدو أحد مقتضياتها تجاوز الفضاء الأوروبي إلى فضاءات أوسع في العمق الإفريقي والآسيوي والأمريكي، تكون فيه أوروبا مجرَّد طرف من الأطراف لا غير.
دبلوماسياً وجيوسياسياً تُمكِّن شراكة جزائرية تركية من لعب دور حيوي في دعم الاستقرار في المنطقة المغاربية والإفريقية. فموقف أنقرة الداعم للشرعية في ليبيا والرافض للحل العسكري فيها، يتقاطع بشكل كبير مع المقاربة الجزائرية في النظر إلى الأزمة في ليبيا. ويمكّن الموقف التركي الرافض للتدخلات الأجنبية وللحلّ العسكري في ليبيا، الجزائر من لعب دور محوري في المنطقة المغاربية والقارة الإفريقية، مرتكزة في ذلك على شريك جدّي ووازن يُعطي دورها ثقلاً دبلوماسياً مقدَّراً.
إن التحولات التي تشهدها الجزائر في مسعى لتطوير نظامها السياسي، وإعادة إرسائه على قواعد جديدة، في ظلّ ديناميكية سياسية واجتماعية ضاغطة بهذا الاتجاه، ستفتح الجزائر على سياقات وفرص أكبر وأوسع في إدارة ثرواتها وتعزيز إمكانياتها بشكل أكثر فاعلية ورشداً. ويمثّل تلاقيها مع تركيا كإحدى القوى الإقليمية والدولية الصاعدة، وبالنظر إلى ما يجمع البلدين من قواسم وتطلعات وانشغالات مشتركة، فرصة تاريخية لإقامة شراكة جزائرية-تركية استراتيجية على جميع المستويات، ومكسباً تاريخياً ممكناً للبلدين.
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.