منذ حدوث الكارثة، كارثة الزلزال المدمر الذي ضرب أجزاء واسعة من الأراضي في جنوب شرق تركيا وشمال غرب سوريا، وعشرات الملايين من الناس شاخصون أمام الشاشات لمراقبة الأحداث لحظة بلحظة للاطمئنان على إخوانهم في الإنسانية أولئك الآلاف المؤلفة الذين يقضون تحت الركام وفي العراء بعد أن تهدمت منازلهم بفعل اهتزازات أرضية بلغت المئات جاءت إثر الهزة الأولى الكبرى والتي بلغت 7.7 درجة على مقياس رختر.
كأننا نسينا، كما يقول تميم البرغوثي "فذكرتنا الأرض بهشاشة ما نبنيه عليها، وبأن كل بيت خيمة، وأن كل دائم مؤقت وأن كل صراع بين الناس والناس فرعٌ عن صراع واحد أصيل، بين كل الناس من جهة والموت من جهة أخرى". ولكن الأهم أن هذا الزلزال جاء كي يذكر الإنسانية بأن بوصلتها قد انحرفت وأن الأوان آن لتعديل هذه البوصلة والتوجه نحو المسار السليم: الإنسان ذاته.
إن أقل ما يمكن أن توصف به حادثة الزلزال الذي ضرب مؤخراً كل من تركيا وسوريا بأنها كارثة ومأساة حقيقية على المستويات كافة. فقوة الزلزال مهولة وحجم الهزات الارتدادية، التي وصلت إلى أكثر من ألف، لا يصدق، والمساحة واسعة جداً بلغت أكثر من 500 كم مربع، والطاقة الناتجة عنه ضخمة تزيد عن الطاقة التي نتجت عن زلزال إيطاليا عام 2016 بمائتين مرة، هذا فضلا عن قربه من القشرة الأرضية إذ جرى على عمق عمودي قدر بحوالي 18 كيلومتراً فقط وهو ما عده الخبراء بالزلزال الضحل وهو أقسى أنواع الزلازل، وأدى إلى دفع اليابسة التركية ما يقرب من ثلاثة إلى ستة أمتار باتجاه الجنوب الغربي. لذلك لم يكن مستغرباً أن ينتج عنه في البلدين انهيار ما يقرب من 10 آلاف منزل بشكل كامل وجزئي، وهذا الكم الهائل من الأضرار التي أصابت البنية التحتية، والأهم كل ذلك هذا القدر الكبير من الضحايا إذ تجاوز عدد القتلى حاجز الـ21 ألفاً، في حين تجاوز عدد المصابين حاجز الـ81 ألفاً
بادرت الحكومة التركية لتوفير ما يلزم من أجل التخفيف من آثار الزلزال الكارثية عن مواطنيها والخروج بهم من هذه الأزمة غير المسبوقة. وقدرت أوساط دولية بأن هذا الزلزال هو أكبر كارثة طبيعية منذ ربع قرن على المستوى الدولي، في حين أنه الأكبر منذ قرن على المستوى المحلي داخل تركيا. كما هرع المجتمع المدني لإرسال المساعدات إلى تركيا وإلى سوريا (بشكل متواضع جداً) سواء تلك المادية أم اللوجستية للمساعدة في عمليات الإنقاذ ورفع الأنقاض. وهي جهود ومساعدات محل تقدير واحترام بطبيعة الحال، ولكن هل هي على قدر الحدث؟ الجواب: قطعاً لا.
في السياق التركي على أقل تقدير لا يعود الأمر إلى أسباب سياسية بحتة أو لوجستية وحسب كما هو الواقع في سوريا. من يراقب المشهد من بعيد يرى أن المجتمع الدولي في حالة إنهاك كبير جراء عديد من المشكلات الدولية من ناحية، والحروب الجانبية من جانب آخر وهو الأمر الذي يؤثر قطعاً على جهود الإغاثة والمساعدات الدولية.
فمع بداية العقد الثاني من الألفية، كان العالم على موعد مع جائحة صحية لا مثيل لها ربما في التاريخ الإنساني من ناحية سرعة الانتشار والغموض الذي كمن في أسبابها. كانت جائحة كورونا كارثية بامتياز. إذ راح ضحيتها ملايين الأشخاص، وغطت جميع دول العالم بلا استثناء، وتسببت في إغلاقات كاملة لم يُر مثلها في التاريخ البشري المسجل حتى حولت عديداً من مدن العالم إلى مدن أشباح بالمعنى الحرفي للكلمة.
كانت الآثار المباشرة لجائحة كورونا ملحوظة بشكل واسع على طبيعة حياتنا اليومية التي لم تعد كما كانت في السابق. فقد الإنسان فجأة حياته التي اعتاد عليها طيلة عمره، وقد اضطرته الجائحة إلى أن يعيد هندسة تواصله التي ورثها عبر آلاف السنوات في جيناته وتقتضي المخالطة مع بني جنسه لتقول له جائحة كوفيد إننا الآن لسنا في صدد التفاعل بل التباعد الاجتماعي. فجأة فقد كل شيء معناه، وبات الإنسان يعيش كأنه معلق بالفضاء فاقد لأسس الشعور بالأمن والاستقرار.
ما أن انتهت جائحة كورونا بعد أن أرهقت البشر، حتى دخلت الإنسانية في أزمة جديدة ولكنها أزمة رأى صناع القرار في العالم ضرورة السكوت عنها أو التحدث بها خلف الأبواب المغلقة. أثرت الجائحة بشكل كبير على الاقتصاد العالمي. فمع سياسة الاغلاقات، والتقيدات على حرية الحركة والسفر تعطلت دورة الحياة الصناعية على مستوى العالم، وأصيبت سلاسل التوريد بالشلل، وباتت التجارة العالمية على المحك فارتفعت الأسعار، وزادت نسب البطالة والتضخم، وأصبحت خزائن الدول تعاني من ضغط كبير بسبب سياسات التحفيز والتعويضات الاجتماعية. وزادت سياسة الصين "صفر إصابات" الطين بلّة وهي مصنع العالم إذ أبقت على سياسة الإغلاقات حتى بعد أن فتحت غالبية الأسواق العالمية أبوابها.
بالكاد تعافى العالم من جائحة كورونا وما نتج عنها من أزمة اقتصادية صامتة فطالعنا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحرب على طراز حروب القرن العشرين عندما اجتاحت قواته أوكرانيا بـ"بعمليات خاصة" من أجل "إسقاط حكومة النازيين الجدد في كييف". وكما كانت جائحة كورونا مباغتة كانت الحرب الروسية على أوكرانيا مباغتة أيضاً. سريعاً وجد العالم نفسه في حرب طاحنة، ساحتها أوروبا. وهي أول حرب بين دولتَين أوروبيتَين منذ الحرب العالمية الثانية وهو ما أثار كثيراً من الذكريات المؤلمة.
وضعت الحرب كل المظالم التاريخية على طاولة واحدة. فروسيا تريد أن تثأر لاتحادها السوفييتي الذي انهار على وقع ضربات الليبرالية الغربية، والغرب يريد أن يستثمر في منجزه التاريخي في خنق روسيا عبر التمدد شرقاً بمؤسساته عابرة الحدود كالاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
تمترس كل طرف خلف موقفه. ولأنها حرب تحدث في ظل "لحظة العولمة التاريخية" فاستُعملت فيها كل الأدوات التي كانت لها انعكاسات كارثية على المستوى الدولي مثل سلاحَي الطاقة والغذاء اللذَين ألهبا الأسواق العالمية من حيث زيادة الأسعار والتضخم وهو الأمر الذي زاد هشاشة الوضع الاقتصادي الدولي الذي يعاني من الهشاشة أصلاً.
صُرفت مليارات الدولارات على شكل مساعدات عسكرية لتغذية آلة القتل لدى الطرفين، ومع تزايد التهديد باستخدام السلاح النووي، بات القلق العالمي في أعلى درجاته. هنا، بدلاً من أن ينصرف الهم العالمي للإنسانية إلى مناقشة ومواجهة التغييرات المناخية التي تعد إحدى أكبر المخاطر التي تواجه الوجود البشري على الأرض وما ينجم عنها من كوارث طبيعية، بات ينصرف إلى التفكير في القمح والغاز لتأمين لقمة عيشه وتدفئة بيته.
البوصلة هنا انحرفت. وجاء زلزال تركيا وسوريا ليؤكد لنا على ذلك من خلال الإرهاق الذي بدا عليه تحرك المجتمع الدولي في التعاطي مع الأزمة. مجتمع دولي مرهق ومشتت وغير مستقر ولا يشعر بالأمن. يجب أن يوضع حد للحرب بشكل مباشر. وبدلاً من تخصيص كل هذه المليارات للسلاح، يجب إعادة استثمارها بشكل يخدم الإنسانية ومستقبلها على هذه الأرض خصوصاً أنها دخلت منعطفاً خطيراً في موضوع الاحتباس الحراري والظواهر الناجمة عنه من حرائق وفيضانات وجفاف وزلزال.
يجب أن يكون تحت مظلة الأمم المتحدة، على سبيل المثال، هيئات للتدخل السريع لا لحظة السلام وحسب بل للتعامل مع الكوارث الطبيعية والتي سوف تزيد حدتها مع مرور الوقت. معركة الطبيعة على عكس غيرها من المعارك ليس لنا نحن البشر خيار خسرانها لان ذلك يعني شيئاً واحداً فقط: الانقراض. من هنا يعد من الضروري بدء إعادة ضبط البوصلة الإنسانية.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.