يقصد بالميتافيرس "العوالم الافتراضية"، وهو أمر شبيه بما يعرفه مسبقاً محترفو الألعاب الإلكترونية، فيمكن وصفه بالمساحة التي يلتقي فيها اللاعبون بشكل افتراضي مهما اختلفت أماكنهم في العالم.
بعبارة أخرى، يقصد فيه في هذه الحالة نقل العالم الحقيقي إلى العالم الافتراضي بحيث يمكن أن نعيش تفاصيل حياتنا اليومية في تلك المساحات الافتراضية، إذ من الممكن أن نذهب من خلاله لقضاء عطلاتنا أو تنظيم احتفالاتنا والذهاب إلى العمل وإجراء الاجتماعات الضرورية هناك من دون الحاجة إلى التواصل الواقعي أو الحقيقي إن جاز التعبير.
الفكرة ليست جديدة. فقد بدأ هذا التحول التدريجي بالانتقال من العالم الحقيقي إلى العالم الافتراضي منذ ظهور منصات التواصل الاجتماعي، إذ بدأنا بالانضمام تباعاً إلى تلك المنصات لأن العالم تحول شيئاً فشيئاً إلى التواصل عبرها، ساهم في ذلك بشدة في السنوات الأخيرة حالة التباعد الاجتماعي التي فرضها فيروس كورونا وضرورة البقاء في الحجر الصحي بعيداً عن الاحتكاك اليومي والمتواصل.
يبدو أننا وصلنا إلى هذه المرحلة بالتدريج الممنهج، وباتت الفكرة مقبولة، بل ومرحب بها إذ لو أن أحداً طرح هذه الفكرة في تسعينات القرن الماضي لسخر منه المحيط وعَدَّه مجذوباً، لكن الأمر لم يعد نكتة اليوم لقد أصبحت تلك الحكاية واقعاً، لاقى القبول لدى الناس ما منحه مشروعية لا مجال لنقاشها، وأصبح المجتمع يعتبر من لم يلحق بالركب التكنولوجي أمّيّاً وغير قادر على إدارة شؤونه الخاصة والعملية لأن كل شيء أصبح مرتبطاً بالشبكة العنكبوتية.
ازداد إقبال الناس بشكل كبير على شراء الأراضي في المنصات الافتراضية من بعد بداية العام من باب تجاري بحت، تارة من مبدأ أن الأسعار سوف ترتفع مع الوقت مثلما حدث في العملات الرقمية التي أصبحت الواحدة منها اليوم تضاهي مبلغاً وقدره، وتارة أخرى لأن كل شخص يريد أن يحجز له مكاناً في ذلك العالم الجديد.
لقد سادت العالم مراحل متقلبة انتقل فيها بسرعة غريبة بحيث لم يعد بإمكان كثيرين مجاراة تلك المتغيرات، وفي الوقت نفسه كانت تلك الفترة مليئة بحالة من اليأس والاكتئاب بسبب الفجوة التي تركها ذلك الانتقال السريع، إذ كان الشعور السائد لدى الأعم الأغلب هو وجود حالة من الفوضى وعدم الفهم بسبب ضبابية مفهوم العالم الافتراضي واستغراب أدواته وآلياته، وبات الناس عالقون بين العالم المغلق الذي اعتادوا عليه وألفوه وبين عالم مشرع الأبواب وضعنا في مواجهة حقيقة السجن الذي سكناّه كشعوب عربية لعقود دون أن ندرك أدنى فكرة عن العالم الخارجي.
ولإن كانت إغراءات العالم الجديد كثيرة إلا أن تبعاته غير المحمودة كثيرة هي الأخرى، فقد ولجنا بواباته واقتحمناها دون أن تتحلى بقليل من الصبر والحذر، لكن ذلك كان شراً لا بد منه لأن العجلة تمشي بسرعة مهولة وليس بيدنا سوى مجاراتها كي نستطيع مواكبة فهم العالم.
شكل رواد التواصل الاجتماعي مع الوقت مجتمعنا خاصاً بهم واسْتُبعِد بشكل تقني من هذا المجتمع مع الوقت من رفض الانخراط في تلك المنظومة الجديدة التي لا تحاكي الحالة الاجتماعية الإنسانية ولا تقارن بها من وجهة نظر كثيرين، وأصبحنا في مواجهة مجتمعين في ضمن المجتمع نفسه كل منهما يتحدث بلغة ومصطلحات مختلفة تقريباً، وشيئاً فشيئاً بدأت مساحة المجتمع الحقيقي أو الطبيعي، إذا جاز التعبير، تضيق لحساب مساحة المجتمع الافتراضي، وأصبح لكل مشترك منهم مساحته الخاصة التي يعتقد أنه يمارس فيها حريته إلا أن تلك الحرية بدأت تضيق مع الوقت بسبب معايير خاصة فرضها مديرو ذلك العالم.
من ناحية أخرى فرض الواقع الجديد معايير جديدة وأدى إلى اختلاق مجموعة من المفاهيم، إذ أفرز ما اصطلح المشرّعون عليه بـ"الجريمة الإلكترونية": وهو تجاوز واختراق المعايير المحددة للمجتمع والدول عبر الفضاء الإلكتروني غير الخاضع لسيطرتها من حيث المبدأ، وهو أمر استغلته الأنظمة الاستبدادية بحدوده القصوى بهدف تضييق مساحة حرية الشعوب وقوننة جرائم مختلفة لم تنص عليها القوانين الوضعية السابقة، وتجاوز المشرع بذلك عناصر الجريمة التقليدية وأركانها إذ كان من الضروري اجتماع الركن المادي من فعل ونتيجة وعلاقة سببية والركن المعنوي مع الركن القانوني وهو النص القانوني وطبيعة الجزاء، فوضع نصوصاً قانونية تجرم صاحبها حتى وإن لم يتحقق فيها أي من الأركان السابقة وهذا مجال بحث منفرد بحد ذاته.
بالنسبة إلى فئات كثيرة أخرى فإن الهروب من الواقع أو محاولة تحسينه بالذهاب إلى تلك المساحات قد يصبح مستحيلاً في ظل عدم وجود قانون، ولأن تلك المساحات تحكمها روبوتات غير مؤهلة للتعامل مع مشكلات الجنس البشري بعد وتجيب بشكل غير وافٍ على الشكاوى الموجهة لها بخصوص الانتهاكات التي يتعرض لها المستخدمون، إذ تصل شكاوى بخروقات مثل التحرش والاغتصاب والاحتيال وهو أمر لم يجد له المستخدمون حلاً حتى اللحظة.
وعلى الرغم من عدم وجود مساحات آمنة حتى الآن فإن الإقبال على الاشتراك فيها أو شراء أراضٍ يعدّ في أوجه أشبه بحالة اصطفاء بمعنى أن كل من لن يكون جزءًا من العالم الجديد سيكون غريباً وأمياً، ما يجعلنا أمام حالات انقسام جديدة ومختلفة في المجتمعات في هذه المرة.
قبل سنوات كان الوجود في العالم الأزرق أمراً غير مكلف "مجاني وسيبقى كذلك"، الأمر الذي لا يبدو أنه سيكون كذلك في المرحلة القادمة ذلك أن مجرد الوجود في الفضاءات المحتملة سيكون مكلفاً على الصعيدين المادي والمعنوي، وربما قد لا نمتلك تلك القدرة أو الطاقة، فأسعار العقارات والأراضي بدأت ترتفع للغاية ويبدو أن ذلك لن يكون الحد الأخير.
بعد الانقلاب الكبير الذي مهدت له هذه القفزة التكنولوجية الأخيرة فإنه من المتوقع أن تعاود المجتمعات الانقسام على نفسها، وهنالك من لن يستطيع اللحاق بالركب الجديد، أو هناك من سينسحب منه ربما لأن المعايير الجديدة قد تفوق قدراتهم، والحقيقة أننا لسنا بصدد محاكمة الحالة وتقييمها بقدر ما علينا أن نفكر فيما لو لم نرد أو لم نستطع أن نكون جزءاً من المصفوفة الجديدة، كيف سيكون تعاملنا مع العالم الجديد وماذا سيكون محلنا من الإعراب؟
جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عن TRT عربي.