واشنطن مع الخليج.. نحو مقاربة بعيدة عن الانتهازية
ما إن اندلعت الحرب الروسية على أوكرانيا حتى وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام لحظة تاريخية أعادت إليها الشعور بعدم الثقة من جديد، وهو الشعور الذي تذوقته بُعيد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.
العلمين السعودي والأمريكي (Others)

في ذلك الوقت سقطت ورقة التوت واكتشفت أمريكا أنها معرَّضة للهجوم على أراضيها، ليس من قوة تضاهيها في القدرات والحجم، بل من قبل جماعة تُعتبر، في منطق القدرات العسكرية واللوجستية، بدائية. سرعان ما حاولت الولايات المتحدة استعادة الثقة بنفسها من خلال حشد تحالف دولي وغزو بلدين هما أفغانستان والعراق، وشنّ حرب كونية على ما يسمى بـ"الإرهاب"، وباتت العقيدة السياسية الأمريكية هي "من ليس معنا فهو ضدنا".

الشعور بعدم الثقة يتجدّد هذه المرة، ولكن من باب مواقف الحلفاء التقليديين لواشنطن من الحرب بدلاً من التعرُّض لهجوم مباشر على أراضيها. فالمراقب يرى بكل سهولة أن الولايات المتحدة قد فشلت حتى اللحظة في تشكيل كتلة صلبة من حلفائها ضد روسيا، فخارج الاتحاد الأوروبي تبدو الصورة قاتمة لواشنطن. فقد زار رئيس وزراء باكستان السابق عمران خان، على سبيل المثال، روسيا بُعَيد انطلاق العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا ورفض بشكل مباشر شجب الهجوم الروسي، وقال للغرب "لسنا عبيداً عندكم"، وقد اتخذت الهند موقفاً مشابهاً إلى حد كبير للموقف الباكستاني وبدت أقرب إلى موسكو منها إلى واشنطن، في حين امتنعت كل من السعودية والإمارات عن الاستجابة للطلب الأمريكي بزيادة إنتاج النفط، وذلك للتعويض عن النقص الحاصل في سوق الطاقة جرَّاء العقوبات الغربية على روسيا.

ولنكُنْ أكثر تحديداً، كشفت مجريات الحرب الروسية-الأوكرانية عوار النهج الأمريكي في تعاطيها مع من تدّعي أنهم "حلفاؤها التقليديون". ما يهمّنا هنا هو النهج المتبع مع حلفاء واشنطن في الخليج العربي، وتحديداً السعودية والإمارات. لقد اتضح أن الولايات المتحدة ما زالت تنظر إلى حلفائها في الخليج من عدسة الأتباع لا الحلفاء، وظنت أنها قادرة بمجرد إجراء اتصال هاتفي مع قادة هذه الدول على أخذ ما تشاء منهم. ولكنها فوجئت بأن "سمعاً وطاعة" لم يعُد هو الردّ المباشر الذي تتلقَّاه واشنطن من هؤلاء القادة، بل تجاهُل تامّ حتى لرفع سماعة الهاتف. هذا ما حدث، فلم يكن أحد يتوقع أن يرفض كل من وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، والإماراتي محمد بن زايد، الردّ هاتفياً على اتصال الرئيس الأمريكي بايدن ليطلب منهما زيادة المعروض النفطي في الأسواق.

وحتى نكون واقعيين، لا يأتي هذا الرفض وهذا التمنُّع من طرف الإمارات والسعودية في سياق الانكفاء عن حليفهما الاستراتيجي الولايات المتحدة بقدر ما هو تعبير عن امتعاض من طريقة تعاطيها معهما، هذا من جانب، وتعبير عن التغيرات الحاصلة في النظامين الدولي والإقليمي من جانب آخر.

وبالعودة إلى الوراء قليلاً، ومنذ أن دشّنها كل من الرئيس الأمريكي أيزنهاور والملك عبد العزيز آل سعود، لم تشهد العلاقات الأمريكية مع دول الخليج العربي ازدهاراً كما عاشته في عقد الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين. في ذلك الوقت كان يُنظر إلى الولايات المتحدة خليجياً على أنها الحليف الموثوق به. وقد ظهر حجم التقارب بينهما في ملفات شديدة الحساسية مثل حرب الخليج الأولى ضد إيران، والحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفييتي، وانبثاق عقيدة كارتل التي تعتبر منطقة الخليج واحدة من المناطق الحيوية لأمن الولايات المتحدة. وعندما اجتاحت القوات العراقية الأراضي الكويتية، سارعت الولايات المتحدة إلى تشكيل تحالف دولي لإخراج القوات العراقية، وضمان أمن الخليج من خلال الوجود العسكري المباشر في المنطقة. وبعد ذلك، وإبان الحرب الكونية على الإرهاب، شكّل التحالف بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربي محوراً أساسياً في جهود ملاحقة الجماعات المتطرفة ووضع حدّ لعملياتها "الإرهابية".

النظرة إلى الولايات المتحدة كحليف موثوق من طرف الولايات المتحدة بدأت التآكل تحديداً مع اندلاع ثورات الربيع العربي. نظرت دول الخليج العربي بعين الريبة إلى موقف إدارة الرئيس باراك أوباما من الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت العواصم العربية، وقد شعرت بالذعر عندما تخلّت واشنطن عن واحد من أقدم حلفائها في المنطقة ألا وهو حسني مبارك الذي اضطُرّ تحت ضغط الشارع إلى التنحّي. تعززت حالة النقمة الخليجية على البيت الأبيض من التصريحات القادمة على لسان الرئيس الأمريكي الذي حمَّل المسؤولية عمَّا آلت إليه أوضاع الدول العربية لسياسة حكامها القمعية والتسلطية. لقد فُهمت هذه التصريحات حينها على أن الولايات المتحدة قد أدارت ظهرها إلى حلفائها الخليجيين.

تَعزَّز هذا الشعور على الأرض من خلال التجاهل الأمريكي لحلفاء واشنطن الخليجيين في محادثات الاتفاق النووي الإيراني الذي تم التوصل إليه عام 2015. لقد أغضب هذا التجاهل العواصم الخليجية، وترسخت قناعة بأن الولايات المتحدة غير معنية بالهواجس الأمنية لحلفائها. فالعلاقة مع إيران لم تكن محصورة في مسألة السلاح النووي، بل كان هناك البرنامج الصاروخي لإيران وسياستها في دعم المليشيات الشيعية في الدول العربية التي يُنظر إليها على نطاق واسع بأنها أحد أبرز الأسباب المزعزعة للاستقرار في المنطقة. رفضت واشنطن حينها تضمين أيّ من هذه الهواجس في الاتفاق، كما رفضت أن تمدّ مظلّتها النووية لتشمل حلفاءها الخليجيين، الأمر الذي عزّز فكرة التخلِّي الأمريكي عن الحلفاء.

فكرة التخلي هذه استُبدلت بها فكرة الصفقات مع مجيء إدارة الرئيس ترمب. وعلى الرغم من أن إدارة الرئيس ترمب اتخذت بعض الخطوات من أجل ترميم العلاقة مع دول الخليج فإنها افتقرت إلى الجدية. كان الرئيس ترمب معنيّاً قدر الإمكان بالكاش الخليجي من خلال التمويل المباشر للمشاريع الأمريكية أو من خلال صفقات السلاح. وعلى الرغم من أن إدارة ترمب قد اتخذ بعض الخطوات الجوهرية من قبيل الانسحاب من الاتفاق النووي، واغتيال قاسم سليماني الذي كان يُنظر إليه كمايسترو النفوذ الإيراني في الدول العربية، ووضع الحرس الثوري الإيراني على قوائم الإرهاب الأمريكية، فإنها وقت الجد لم تُبدِ عزماً في الدفاع عن أمن حلفائها، فلم تتخذ الولايات المتحدة خطوات جوهرية ردّاً على استهداف وكلاء إيران، سواء جماعة الحوثي أو الجماعات الشيعية في العراق، للمنشآت النفطية الحيوية في السعودية.

التحسن النسبي في العلاقات إبان فترة ولاية الرئيس ترمب سرعان ما تلاشى مع قدوم الرئيس بايدن الذي اتخذ موقفاً صارماً من السعودية، وتحديداً من وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، ومن ثم عودة الإدارة الأمريكية للتفاوض مع إيران مكرّرة نفس الأخطاء بتجاهلها الهواجس الأمنية لحلفائها الخليجيين، وتراجع الدعم الأمريكي العسكري للسعودية خصوصاً في ما يتعلق بالحرب في اليمن. لذلك لا غرابة أن تكون استجابة السعودية فاترة في ما يتعلق بالطلب الأمريكي لزيادة ضخّ النفط في الأسواق العالمية.

ربما حان الأوان أن تتخلى الولايات المتحدة عن موقفها الانتهازي في تعاطيها مع حلفائها الإقليميين، وتتقدم خطوة إلى الأمام في طريق التعامل معهم من منطلق الندية والمصالح المشتركة لاستعادة ثقتها بنفسها وثقة الحلفاء بها، وهو الأمر الذي تراه واشنطن مهمّاً للحفاظ على مكانتها العالمية.

فالعالم أثبت أنه أكبر من الولايات المتحدة، وفيه قوى أصبحت على استعداد لتحلّ مكانها في العديد من الملفات الدولية. وبالحديث عن دول الخليج فقد باتت هذه الدول تدرك أن نهج التعددية في سياساتها الخارجية يخدم مصالحها القومية بشكل أفضل، فمع إبقاء علاقتها الاستراتيجية بالولايات المتحدة، أثبت الانفتاح على الصين وروسيا أنه مُجدٍ اقتصاديا وأقلّ تكلفة من الناحية السياسة.

جميع المقالات المنشورة تعبِر عن رأي كُتَابها ولا تعبِر بالضرورة عنTRTعربي.

TRT عربي