تزايدت الضغوط والعقوبات الأمريكية والغربية على إيران واشتدت وتيرتها منذ انهيار الاتفاق النووي وفشل مفاوضات إيران والغرب بإنجاز اتفاق جديد لرفع العقوبات والحصار عنها، ما زاد عزلة إيران وفاقم الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بالداخل ودفع المسؤولين فيها وعلى رأسهم المرشد الأعلى علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي إلى تفعيل خيار التوجه شرقاً نحو الصين وغيرها من الدول الفاعلة لإبطال مفعول العقوبات الغربية أو تخفيف وطأتها.
لقد مرّت العلاقات الصينية-الإيرانية بمراحل غلب عليها الهدوء والانسجام وكان قيام الثورة الإسلامية بإيران (1970) أحد أهم المنعطفات بتاريخ علاقات البلدين، إذ استغلّت الصين تلك الفرصة للتمدّد نحو إيران مستفيدة من توتر علاقات الأخيرة مع الولايات المتحدة، وفي المقابل وجدت إيران بالصين متنفّساً لها في ظل العقوبات والعزلة والضغوط التي مورست عليها منذ قيام تلك الثورة، بدءاً بالحرب مع العراق وابتياع السلاح منها، ثم الإفادة منها بمرحلة إعادة الإعمار، ثم ببناء المفاعلات النووية واستيراد التقنيات والمنتجات الصناعية الضرورية.
وكانت الصين من أكبر المساندين لإيران بمجلس الأمن عبر التصويت لصالحها واستخدام حق النقض الفيتو في كثير من الحالات لمنع أي قرار يدينها أو يعاقبها. وتُوّج مسار تلك العلاقات الوثيقة بتوقيع الاتفاقية الاستراتيجية بين الطرفين في 2021، التي جاءت استجابة لمصالحهما ومتطلبات المرحلة والظروف الإقليمية والدولية، وفي سياق بحث إيران عن بدائل إثر انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وفرض عقوبات على جميع القطاعات الإيرانية.
وكان لوصول الرئيس إبراهيم رئيس إلى السلطة أكبر الأثر بإبرام هذه المعاهدة وهو الذي يحظى بتأييد مطلق من أهم السلطات في البلاد وعلى رأسها المرشد الأعلى، وكانت آخر خطوات هذا التوجّه الإيراني نحو الصين في زيارة رئيسي إلى بكين مؤخّراً على رأس وفد رفيع، وعنوان زيارته هو "تنفيذ الوثيقة الاستراتيجية بين البلدين".
أبرمت اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين الحكومتين الصينية والإيرانية آخر مارس/آذار عام 2021 لمدّة 25 عاماً، وأحيطت بنود هذه المعاهدة بهالة من السرّية والكتمان، ولم تتسرّب بنودها وتفاصيلها، ما دفع كثيراً من النخب السياسية الإيرانية إلى مهاجمتها والتنديد بها والدعوة للكشف عن ذلك الاتفاق السرّي الذي جرى بعيداً عن أعين الشعب وإرادته.
على المستوى الشعبي أثار هذا التعتيم سخطاً واسعاً، ورأى كثير أن دولتهم رهنت إيران للصين التي لن تتوانى عن نهب ثرواتها كالنفط والغاز والمعادن والثروة السمكية والزراعية.
بالمقابل ستغرق الصينُ بلادهم ببضائعها الرخيصة ومنتجاتها الاستهلاكية على حساب الصناعات المحلية، ورأى هؤلاء أن مآل هذه المعاهدة الفشل ولن يعترف الشعب بها لأنها لا تراعي مصالحه ومصالح البلاد.
وضعت هذه المعاهدة لدى قطاعات واسعة من الشعب في سياق تلك المعاهدات التي وقعها حكام إيران سابقاً وطالت سيادة البلاد مثل مُعاهدَتَي وتركمان شاي (1813) وكلستان (1828) اللتين وقعهما الحكام القاجاريون مع روسيا القيصرية إبان النهضة الصناعية الغربية التي رأت في إيران هدفاً مهماً للسيطرة على منابع الطاقة والثروات الطبيعية.
لكن المتحمّسين لهذه المعاهدة والموقّعين عليها وعلى رأسهم القوى الأصولية والتيارات المحافظة المعادية للتوجّه نحو الغرب يدافعون عن هذه المعاهدة، فقد وصفتها صحيفة جوان الإيرانية الأصولية بأنها "ميثاق الأسد والتنين"، وبشّروا بأن نتيجتها (رابح-رابح)، وأن سفر الرئيس إبراهيم رئيسي إلى الصين لتنفيذ هذه المعاهدة مع دولة عظمى كالصين يعد إعلان انتصار على العقوبات الاقتصادية الغربية، ووضع حدّ لسياسة الضغوط القصوى والغطرسة الأمريكية التي مورِست على إيران لتركيعها ودفعها إلى قبول شروطهم في الملف النووي وتقييد صناعتها العسكرية الاستراتيجية وإنهاء نفوذها في المنطقة.
وبغضّ النظر عن هذه التصوّرات، أعتقد أن أسباباً عدّة دفعت إيران إلى الاتجاه نحو الصين، على رأسها ازدياد وطأة العقوبات عليها في الآونة الأخيرة وسوء الوضع الاقتصادي وتسارع وتيرة انهيار العملة وتفشّي الفقر والبطالة.
كما ترغب إيران بتخفيف آثار الحظر الغربي على الاقتصاد الإيراني بتصدير منتجاتها النفطية إلى الصين واستيراد احتياجاتها منها وفتح الباب أمام المستثمرين الصينيين لتطوير مشاريعها وقطاعاتها المشلولة نتيجة العقوبات، مستغلة حاجة الصين إليها بعد إطلاق الأخيرة مبادرة (الحزام والطريق) لربط الصين بالعالم وتنمية البنى التحتية بالدول التي يمر منها هذا الطريق، إذ يشكِّل موقع إيران أهميةً جيوسياسية للصين، فهو يعد عقدة الوصل بين الشرق والغرب وتشرف على أهم المسطحات المائية العالمية والشواطئ الدافئة، وهي: بحر قزوين والخليج العربي وبحر عمان والمحيط الهندي، الأمر الذي لا غنى عنه بأي ممر تجاري عالمي.
رغم السرّية والتكتم الإعلامي على تفاصيل العلاقات الإيرانية-الصينية في ظلّ العقوبات الأمريكية والأوربية على إيران نُشرت تقارير كثيرة حول الصفقات الاقتصادية والعسكرية والسياسية بين الطرفين، والتي لم تتوقف أبداً رغم وطأة العقوبات والحظر الغربي على الجمهورية الإسلامية الإيرانية وكل من يتعامل معها.
لكنّ متانة تلك العلاقات ووحدة المصالح لم تمنع ظهور خلافات كان آخرها تصديق الرئيس الصيني على البيان الختامي للقمة الصينية-الخليجية بالرياض، وفيه بند على أحقّية الإمارات بجزرها الثلاث بالخليج العربي، وهي أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى، ما أثار زوبعة كبيرة بالداخل الإيراني على كل المستويات الرسمية والشعبية، وعُدّ خروجاً صينياً عن سياستها المعهودة، وتجاوزاً للخطوط الحمراء وتطاولاً على السيادة الإيرانية ووحدة أراضيها.
لعل هذه الحادثة زادت هواجس الإيرانيين تجاه السياسة الصينية، فباتوا يخشون انحياز الصين إلى الدول الخليجية العربية واعتمادها عليهم بتأمين موارد طاقتها على حسابها والاستثمار في تلك الدول في ظل العقوبات الغربية على الاقتصاد الإيراني وصعوبات تعامل شركات الاستثمار الصينية بالسوق الإيرانية مقارنة بالسوق الخليجية، خصوصاً السعودية والإمارات
وبغض النظر عن النوايا الصينية يرى المعارضون في إيران للتوجه نحو الصين أن الصين لا يمكن أبداً تكون بديلاً عن الغرب وأنها تستخدم إيران ورقة للمساومة بملفّاتها العالمية وتسخّرها لخدمة مصالحها وتحدياتها الكبرى مع الولايات المتحدة، مستغلّة عداء إيران مع تلك الدول، علاوة على استغلاها اقتصادياً.
ولا شك بأن إيران تدرك ذلك جلياً وهي التي دأبت على تنويع علاقاتها وشركائها، وما يعنيها في الوقت الحالي من شراكتها مع الصين هو التغلب من خلالها على مشكلاتها الاقتصادية وإبطال تأثير العقوبات الأمريكية والأوروبية الخانقة على الوضع الداخلي، إذ تشير تقارير من داخل إيران إلى وضع اقتصادي مأزوم تعيشه البلاد حالياً.
لقد جرّبت إيران، الخبيرة بالتفاوض والصبورة في التعامل، كل أنواع التفاوض والتعامل مع الولايات المتحدة والدول الغربية، ولم تحصل على مبتغاها وتفرض شروطها، وزادت الأوضاع سوءاً، وها هي تجرّب مساراً جديداً عبر الاندفاع شرقاً نحو الصين والدول الفاعلة هنالك على أمل تأمين احتياجاتها الملحّة في الظروف الراهنة، فهل ستنجح هذه الورقة المتبقية لها بالخروج من عزلتها ومجابهة تحدياتها الداخلية والخارجية، أم أنها ستكون ضحيّة بلعبة مصالح الكبار، وستخسر حينئذ الشرق والغرب ما لم ترضخ لشروطهم؟
الوقائع على الأرض تشير إلى أن التوجه الإيراني نحو الصين لمعالجة ملفّاتها المختلفة -لا سيما الاقتصاد- ومجابهة العقوبات الأمريكية والغربية وفكّ عزلتها لن يكون مُجدياً كثيراً.
فقد يكون حلّاً إسعافياً لها تتمكن من خلاله من بيعَ مزيد من النفط والغاز، وتحظى باستثمارات بعض الشركات الصينية في الطاقة، وهذا لن يغيّر شيئاً وضعها فهي في الأصل لم تتوقّف عن تصدير نفطها وغازها طوال فترة العقوبات وبأساليب مختلفة، ولعلّه كان مسموحاً لها بذلك في ظلّ تناقص إمدادات الطاقة العالمية والرغبة في الحدّ من أسعارها نتيجة الحرب الروسية على أوكرانيا، فعلاقات الصين مع إيران مرهونة بشروط ومحدّدات إقليمية وعالمية كثيرة، وليس من السهولة لدولة عظمى تتقدّم بحذّر وهدوء وثبات كالصين أن تضحّي بمسار نهضتها ومصالحها الضخمة مع دول إقليمية وعالمية ليست على وفاق مع إيران، لتعقد تحالفات ومعاهدات استراتيجية خطيرة مع الأخيرة، وتتحمل تداعيات ذلك من أجل إنقاذها من وضعها المأزوم ورفع العقوبات عنها.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.